المستقبل .. مخزون كبير وشح في المعروض
احتل البترول في حياتنا العصرية مكانة يُحسَد عليها. فهو مصدر الطاقة التي تسير حياة البشر دون منازع منذ أكثر من مائة عام. ولذلك أسباب جوهرية، لعل أهمها الارتفاع النسبي لكثافة الطاقة في المشتقات البترولية، وسهولة النقل والمناولة، وتدني أسعاره إذا قورنت مع معظم مصادر الطاقة الأخرى، وتوزيع مصادره حول العالم، وتوافره بكميات كبيرة تفي بجميع متطلبات المجتمع الدولي لسنوات طويلة. ومن وجهة نظرنا، فتدني أسعار البترول منذ انتشار استخدامه على نطاق واسع، كمادة قابلة للنضوب، كان نتيجة تعرضه لمرحلة احتكارية في بداية عمره على أيدي شركات البترول العملاقة، أو الأخوات السبع، التي كانت تسيطر على السوق البترولية لفترة من الزمن. وكانت تنتِج لنفسها بموجب عقود استثمار مع الدول صاحبة الأرض، وتبيع على نفسها. ومنها، اقتفت الدول المنتِجة أثرها، لاحقا، في إغراق السوق بمنتجاتها البترولية، دون مراعاة لظروفها ومستقبل اقتصادها، ما فسح المجال لثقافة تدني أسعار البترول وجعله مقبولا وارتفاعه شذوذا. ولو تفكرنا بأصحاب المنتجات الصناعية أو الزراعية لوجدنا أنهم يتحاشون الإغراق وحرب الأسعار تحت أي ظرف، مقدمين المصالح العامة على الخاصة. والبترول أولى بأن نحافظ على أسعاره وقيمته الحقيقية كمورد ناضب.
ونعود إلى موضوع العنوان، والحديث عن مستقبل إنتاج البترول من الاحتياطيات الضخمة التي تقدر مبدئيا أو عشوائيا بخمسة إلى سبعة تريليونات برميل من جميع الأصناف، تقليدي وغير تقليدي. منها تريليون واحد فقط من التقليدي أو البترول الرخيص، كما يسمى مجازا. وهذا التقدير مبني على استبعاد الإضافات الأخيرة، الفنزويلية والكندية، من غير التقليدي وإزالة كميات التضخيم التي ليس لوجودها مبرر. والذي يميز التقليدي عن غير التقليدي هو كمية الإنتاج والتكلفة. فلو حسبنا المعدل العالمي اليوم لتكلفة إنتاج برميل التقليدي لوجدنا أن تكلفة غير التقليدي تزيد على ضعفين إلى خمسة أضعاف، حسب الموقع الجغرافي والعوامل الجيولوجية. ولكن الذي أكثر أهمية، هو أن كمية إنتاج غير التقليدي ضئيلة جدا إذا قورنت مع إنتاج التقليدي. ولعله من نافلة القول أن نذكر أن البترول التقليدي يمدنا الآن بأكثر من 90 في المائة من الاستهلاك العالمي. وإمداد غير التقليدي أقل من 10 في المائة، معظمه من البترول الصخري الأمريكي والبترول الرملي من كندا. والشاهد هنا أن نضوب البترول التقليدي، أو الرخيص، بسبب الاستنزاف الجائر، أصبح على الأبواب. ونقصد بالنضوب هنا الانخفاض القصري لكميات الإنتاج، ما سوف يتطلب محاولة التعويض من غير التقليدي المكلف. فمن المنتظر أن يتوقف نمو إنتاج البترول التقليدي خلال سنوات قليلة، وكميات الطلب لا تزال في ارتفاع. ثم يلي ذلك بدء الانخفاض التدريجي للإنتاج، ربما خلال السنوات العشر المقبلة. وهنا يبدأ التوسع في إنتاج النفوط غير التقليدية، بعد أن تكون الأسعار قد تضاعفت وتحسنت الجدوى الاقتصادية لمعظم مصادر غير التقليدي. وقد يكون ذلك عند مستوى مائة وعشرين دولارا للبرميل فما فوق. ولكن الذي نحن بصدده هو أن كميات الإنتاج الجديدة من المصادر المكلِفة لن تستطيع تعويض ما سوف نفقده من البترول الرخيص أو التقليدي. ومع مرور الوقت فسوف تتسع الهوة بين الطلب والإمدادات في السوق البترولية، كحدث طبيعي على الرغم من ضخامة المخزون أو الاحتياطيات التي ذكرناها آنفا.
وتتكون احتياطيات غير التقليدي وتتوزع كما يلي: ما يقارب أربعمائة مليار برميل من البترول الصخري، موزعة بين عدد كبير من الدول. وقد أمكن إنتاجه اقتصاديا عند الأسعار الحالية فقط في أمريكا الشمالية، نظرا لوجود الكثير من العوامل الإيجابية التي لا تتوافر خارج أمريكا. وتريليون ونصف التريليون إلى تريليونين من الصخر البترولي الذي يختلف تماما عن البترول الصخري. فالأخير بترول عادي ويوجد داخل مسام ميكروسكوبية في بطون طبقات صخرية صماء. أي أن المسام غير متواصلة مع بعضها. أما الصخر البترولي فهو فوق سطح الأرض، ويوجد في عدة دول. وأكبر كمية منه توجد في ولاية كلورادو في الولايات المتحدة، وكذلك في الأردن. والرمل البترولي الذي يشبه إلى حد ما الصخر البترولي من حيث وجوده هو الآخر على سطح الأرض، ومعظمه في كندا وفنزويلا باحتياطي قد يزيد على تريليون برميل. وهذان النوعان، الصخر البترولي والرمل البترولي لا ينتجان من الآبار كبقية أنواع البترول، بل يتم تجميع المواد الصخرية والرملية فوق سطح الأرض بواسطة جرافات وينقل إلى معامل التسخين والتكرير من أجل فصل المادة البترولية. وهناك ما يسمى بالبترول الثقيل أو عالي اللزوجة، ويوجد منه كميات كبيرة في فنزويلا. وإنتاجه أيضا يحتاج إلى طرق خاصة ومكلفة لتحويله إلى سائل يسهل جريانه والتعامل معه. ومن الممكن تصنيف احتياطيات البحار العميقة والمناطق المتجمدة مع غير التقليدي بسبب صعوبة إنتاجه وارتفاع تكلفته.
ومن اللافت للنظر أن بعض المسؤولين والمحللين يتحدثون عن مجمل الاحتياطيات البترولية دون الدخول في التفاصيل وكيفية إنتاج القسم الأكبر منها، وهو غير التقليدي. وهذا الفكر قد يولد فهما يوحي بوفرة البترول، دون الفصل بين عصر إمداد الرخيص الغزير منه والمكلف الشحيح. فعمر البترول كمصدر رئيس للطاقة سوف يظل لعقود طويلة وأجيال متوالية، ولكن ليس بالكم الذي نشاهده في وقتنا الحاضر. فمن قراءتنا للوضع الحالي المتمثل في هرَم الحقول المنتجة وامتداده إلى عقد أو عقدين، نتوقع أن يبدأ انخفاض الإنتاج عن مستواه اليوم دون رجعة. ومن ثم يتحول الاعتماد على المصادر غير التقليدية، مع ما بقي من الحقول القديمة التي ستصبح هي نفسها مصدرا غير تقليدي.