ميلاد تاريخ السقوط

إن هذا التنافر العميق في واقع العرب وحاضرهم، سينتهي على الرغم من فجائعه وويلاته والدم المستباح منه إلى تاريخ سقوط العرب وإلى أول النشأة في ميلادهم بعثا جديدا.. خلقا بعد خلق كان أبرز الصفات فيهم الجهل بواقعهم، والعجز عن إصلاح أنفسهم، والعيش على أمجاد الماضين منهم، لأنهم بلا حاضر مجيد..
في كتاب الله: "ثم لا يكونوا أمثالكم". هذه قاعدة الاستخلاف الإلهي المحكم والمتين والثابت، ليس في هذا تضيّق الوعي الاجتماعي المعاصر، والراهن.. بالقراءة الدينية للتاريخ، بقدر ما هي واحدة من أعمق فلسفات الوجود التي تعني أن الفاسد لا يملك في نفسه القدرة على البقاء وعلى الاستمرار، ولو طال أجله وامتد بقاؤه، أما الزبد فيذهب جفاء.. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. الشجرة المريضة تحمل موتها المؤجل، والسوس يأكل زغب البذور، قبل تفتق عروق مجاري الثمر! غرق العرب في الجهل والفساد والاستبداد قبل أن يغرقهم ملح المحيط، وبرودة أمواجه، لا حشرجة لمن يقتله البحر لأنه يغرق استغاثة ضحاياه قبل أن يبتلعهم.. في صمت من يواجه الموت مفتوح العينين والوعي والأحلام القصية.
هذا عصف ربما من العسير أن يسلم من سطوته أحد، ففي سنوات قليلة، خسر العرب من الأرواح والأموال والخراب ما يوازي خسارتهم في كل حروبهم عبر التاريخ الممتد والطويل! في كل يوم تفسح القبور لنزلاء جدد، لموتى قادمين بدمائهم وأحيانا ببعض أجسامهم، ومع كل خبر تأتي قصة قتل لأسباب مجنونة وأسباب نحن نحرص على تسميتها لأنها في حقيقة أمرها بلا سبب ودون مبرر.
إن حركة التاريخ تجري بمستقر ومستودع من السنن والقوانين الثابتة المستقرة.. "ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا"!
كل إنسان هو صورة أفعاله، وكل مجتمع هو نتاج عقل أهله، وحاضره هو هذا التراكم الطويل من أخلاقه وعقله وثقافته! وهنا المنزلق الأعظم، والجهل الأكبر بحقائق الأمور، والجهل بخواتيمها.. ونهاياتها. أفعالنا هي وحدها التي تحدد مصيرنا ومستقبلنا، سلمنا وحربنا، صلاحنا وفسادنا، طهرنا، ورجسنا، ونحن وحدنا وليس غيرنا من يصنع ما نحن فيه.. وما نحن عليه.
القراءة التبريرية للواقع عند العرب من أقدم العصور ولم تزل تقوم على تبرير الفشل. والخيبات، واليأس من الواقع، بترحيلها جميعا إلى شيء ما خارج المسؤولية الذاتية. وبعيدا عن الذات التي اعتدنا على تعظيمها بأكثر مما تستحق من الجلال. الله علمنا أن نسير في وقائع الأمم، وآثارهم لنقبض على مسؤوليتهم المباشرة عن هلاكهم وانقضاء آجالهم بسوء الفعل تارة وسوء الاختيار تارة أخرى. لا شيء معلق ولا شيء بعيد، ولا شيء مكنون في مكامن الغيب عنده بقدر ما هي «جزاء بما كانوا يكسبون». الإنسان هو الذي يصنع حاضره ومستقبله ومصيره في كتاب الله. فهل نبدأ الآن بنشأة الميلاد الأولى بتحمل المسؤولية الكاملة عن واقعنا، وإقامة الاعوجاج منه، وإصلاح الفاسد فيه، وتتبع المنابع التي أنتجت القتل بوصفه عملا من أعمال القربى أو أنتجت الإنسان الذي يتقبل أن يقتل الأبرياء لينال رضا الله عنه، وينال نعيمه منه. دعونا نبدأ ربما وصلنا متأخرين.. وربما عبرنا النهر قبل أن يتم فيضه فنكون فيه من المغرقين، دعونا نركب سفينة الصدق مع أنفسنا، فإنه لا عاصم من أمر الله إلا بهذا الصدق العميق، وهذا القدر الرفيع من التطهر، ربما يؤلمنا، وربما يجرح غرورنا، ونظرتنا المتعالية إلى أنفسنا، إلا أنه في نهاية الأمر سينتهي هذا التعب والألم إلى راحة تنجينا من استحكام ظلمة العمى.. وتجعل لنا في عقولنا وأنفسنا رشدا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي