قصة تعقيم المياه «3» .. البداية

في الواقع ومن البدهي أن معرفة الإنسان بالماء قديمة قدم أولى المستوطنات البشرية. فجميع الحضارات كانت توجد حول أماكن وجود مياه للشرب. لكن معرفة الإنسان بالماء ظلت ولآلاف السنين معرفة (كمية) كمعرفة أماكن وجود المياه وطرق حفر الآبار ومعرفة وقت هطول المطر وفيضان النهر وغيرها. أما المعرفة (النوعية) فلم تتطور كثيرا إلا في القرن الأخير. ونقصد بالمعرفة النوعية هنا معرفة صلاحية الماء للشرب وطرق معالجته وتعقيمه. فالعامل الوحيد الذي كان يحدد مدى صلاحية الماء للشرب في العصور البدائية وحتى نهاية القرن التاسع عشر كان مظهر الماء Aesthetic feature أي لونه ورائحته وطعمه فقط. ونتيجة لمظهر الماء يتم الحكم بصلاحيته للشرب من عدمها. وعند الحاجة إلى معالجة مصدر ماء معين, كانت الطرق في أغلبها تعتمد على وسائل تنقية بدائية. أما تعقيم الماء فلم يتطور بشكل واضح ومتسارع إلا في نهاية القرن التاسع عشر.
كانت أولى وسائل التعقيم وأكثرها بدائية هي التعقيم بالحرارة. فغلي الماء (درجة حرارة 100 مئوية) لمدة دقائق معدودة كفيل بتعقيم الماء أو قتل الميكروبات فيه. بل حتى (تسخين) الماء لدرجة حرارة 50 ـــ 60 درجة مئوية لدقائق يكفي لتطهير الماء أو لقتل أغلب البكتيريا الضارة للإنسان والسبب أن هذه الميكروبات التي تعيش في جسم الإنسان لا تنشط إلا في درجات حرارة الجسم العادية Mesophiles أو 45 درجة مئوية كحد أعلى. تذكر بعض المصادر أن الحضارات اليونانية والسنسكريتية كانت تقوم بغلي الماء أو تعرّضه للشمس مباشرة قبل شربه لضمان صلاحيته. حاليا وعند تلوث شبكة مياه معينة في المدن في أمريكا أو في أوروبا، تقوم السلطات بإرشاد المواطنين إلى غلي الماء لمدة دقيقة على الأقل قبل شربه فيما يعرف بـ Boil-Water Order. أي أنه يتم الرجوع إلى الطريقة التقليدية لضمان تعقيم الماء. لكن التعقيم الحراري وإن كان فعالا في القضاء على الميكروبات الضارة إلا أنه غير عملي عند التعامل مع كميات كبيرة من المياه بطبيعة الحال.
ولهذا ومع التطور الحضاري الذي واكب النهضة الصناعية الأوروبية، كان لزاما البحث عن طرق تعقيم مناسبة للمدن الكبيرة وغير مكلفة. وهنا بدأ البحث عن طريقة أخرى لتعقيم المياه وضمان صلاحيتها للشرب فظهر التعقيم الفيزيائي وهو النوع الثاني من أنواع التعقيم ويعني استخدام حاجز ما ـــ كأغشية التنقية ـــ لعزل الميكروبات من الماء. الكثير من الحضارات السابقة عرفت هذا النوع بطريقة أو بأخرى، فقد أظهرت الكثير من الدراسات استخدام أنواع من الأقمشة بل استخدام التربة والفحم لمعالجة الماء. ومع التطور الصناعي، تم تفعيل هذا النوع على مجال أوسع فظهرت أولى وحدات معالجة الماء ـــ وتعقيمه ـــ للمدن الكبيرة وهي التنقية البطيئة باستخدام التربة Slow Sand Filtration. وفيها يمر الماء عبر فلتر مكون من عدة طبقات مختلفة المسامية من الأتربة والحصى، التي تعمل على إزالة الشوائب العالقة وهذا كان الهدف الأساسي من استخدامها حتى القرن التاسع عشر. إلا أن هذه (الفلاتر) ساهمت بتعقيم المياه من غير قصد من مستخدميها ــــ الذين لم يكونوا على علم بوجود البكتيريا أو خطورتها ـــ وذلك بحجز البكتيريا في مسامات الأتربة. ومع تطور فهم علم التعقيم أدرك العلماء حاجتهم إلى معقم أفضل ومكمل حيث تعاني فلاتر الأتربة عيوبا منها عدم قدرتها على إزالة الميكروبات الصغيرة. العيب الآخر هو أنها كانت معقما موضعيا فقط أي أنه يزيل الميكروبات عند ذلك الحاجز فقط لكنه لا يعطل عودتها أو تكاثرها مرة أخرى. وهكذا وكما تحول العالم من التعقيم الحراري إلى الفيزيائي, بدأ التحول وبشكل سريع إلى التعقيم الكيميائي.
بدأ الحديث عن التعقيم الكيماوي للماء بعد اكتشاف جون سنو حقيقة أن الماء الملوث ـــ بالصرف الصحي خصوصا ـــ هو الناقل الرئيس لأوبئة الكوليرا والتيفوئيد وغيرهما، وبعد أن أثبت إيجناتس سيملويس أهمية التعقيم ودوره في القضاء على الأمراض. وفي كلتا القصتين تم استخدام الكلور كمعقم كيماوي لمياه الشرب وهكذا كان منطقيا أن يصبح الكلور هو أول معقم كيماوي يستخدم في شبكات المياه وذلك عندما استخدمه "سيمز وودهيد" لتعقيم شبكة مياه مدينة ميدستون في إنجلترا في عام 1897. حاليا يعد التعقيم الكيميائي للمياه هو الأكثر شهرة وانتشارا حول العالم. أشهر هذه المعقمات الكيماوية بلا شك هو الكلور ومن ثم الأوزون. سبب انتشار هذا النوع هو سهولة استخدامه خاصة عند وجود كميات مياه كبيرة، وحقيقة أنه تعقيم مستمر وليس موضعيا فقط، فوجود الكلور ـــ حتى في تراكيز صغيرة ـــ يضمن اختفاء وعدم تكاثر الميكروبات في شبكات المياه. في المقالين القادمين سنتحدث بإسهاب عن أشهر هذه المعقمات الكيماوية ـــ الكلور والأوزون.
في هذه المقالة استخدمت كلمتي التعقيم والتطهير Sterilization and Disinfection للدلالة على المعنى نفسه لكنهما علميا مختلفتان. فالتطهير يعني تعطيل أو قتل أغلب الميكروبات في حين تعني كلمة التعقيم التخلص كليا من جميع الميكروبات ــ في جميع أشكالها.
تطور عملية تعقيم الماء ارتبط بتطور فهمنا للأمراض وكيفية انتقالها ولذلك ظلت عملية تعقيم الماء بدائية حتى نهايات القرن التاسع عشر حين بدأ استخدام الكلور في تعقيم مصادر الشرب مع القبول الواسع لنظرية جرثومية المرض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي