دبلوماسية «الكلمة»
"الكلمة" لها أثر بليغ في حياة الإنسان. حاول أن تخاطب شخصا وأقحم في خطابك بعض التوصيفات وانتظر التغيرات التي تجري على محياه.
"إنك تحب الخير ومكانك الجنة" أو "إنك ظالم ولن تدخل الجنة". كل عبارة لها موقف ولها تأثير. وكل عبارة تعبر عن وجهة نظر القائل وتترك أثرا في المتلقي المقصود بها.
الكلمة يفترض ألا تؤدي إلى القطيعة، والسبب لأنها وجهة نظر. ليس هناك وجهة نظر دائمة وثابتة. كل وجهة نظر تدلنا عليها الكلمة. والكلمة رغم احتلالها حيّزا ثابتا في المعجم، هي عرضة لعوامل الزمان والمكان والبيئة التي نعيش فيها والميول بشتى أصنافها.
الكلمات تشكل اللغة أو الخطاب. المعجم ما هو ألا قيد أو سجل للكلمات التي تتألف منها أي لغة. بيد أن اللغة تطاوع أفكارنا ووجهات نظرنا. بمعنى آخر توفر لنا المفردة أو العبارة للتعبير عن وجهة نظرنا. وهناك وجهات نظر كثيرة. تساعدنا الكلمة في الانتقال من وجهة نظر إلى أخرى ومن خانة فكرية وعقائدية إلى أخرى.
والعرب قبل غيرهم من الأمم يقعون تحت سطوة الكلمة. الحضارة العربية ـــ والإسلام نشأ في أحضان هذه الحضارة ــــ حضارة الكلمة. الكثير من الإجراءات والمواقف على مستوى الأشخاص والمجموعات وحتى الدول والحكومات في منطقة الشرق الأوسط مثلا سببها "الكلمة".
هناك ثبات على "الكلمة" في الشرق العربي. "الكلمة" في الغالب يراها أبناء وبنات هذه الحضارة غير قابلة للتغيير، أي أنها ليست وجهة نظر.
اليوم "الكلمة" هي التي تحدد المواقف الثابتة والمبدئية لا بل العقائدية لكثير من الناس والأشخاص والمجموعات والدول وحتى الحكومات في هذه المنطقة. لا أريد الاستشهاد بأمثلة حية يرددها الكثير من الإعلاميين العرب مثل الببغاوات ومعهم الكثير من السياسيين وأصحاب الشأن للدلالة على ثبات الموقف ورفض المناورة والدخول في حوار أو نقاش.
والناس صارت تتعارك بـ "الكلمة". هناك تكرار لوجهات النظر من خلال "الكلمة". اليوم "الكلمة" هي التي تثير المشاعر والوجدان. و"الكلمة" تدخل قلوب الناس قبل عقولهم واستنادا إليها وبناء عليها قد ندخل أنفسنا في أنفاق ودهاليز مظلمة ما إن دخلناها أوقعنا أنفسنا في فخ يحرمنا رؤية ضوء الباب الذي دخلنا منه.
"الكلمة" تصبح أكثر مضاء من السيف ولا سيما عند استخدامها للانتقاص من الآخر والميول التي شب عليها. ميولنا الدينية والمذهبية والثقافية ولوننا وجنسنا كلها تحتلنا دون إرادة منا. نحن نولد بها وفيها. إنها جزء من كياننا كما أن أعضاء جسمنا هي جزء من أجسادنا.
وإن لم ترق لي ميول الآخر المختلف عني بأي شكل من الأشكال و"الكلمات" التي يستخدمها للتعبير عن ميوله، فهذا لا يمثل إلا وجهة نظري. وإن لم ترق الآخر ميولي و"الكلمات" التي أستخدمها لتوصيفها والتعبير عنها، فذلك لا يمثل إلا وجهة نظره،
ووجهة النظر ليست كتابا منزّلا. في اللحظة التي نسبغ "القدسية" على وجهات نظرنا نقترف خطيئة في حق أنفسنا وحق الآخرين.
وجهة النظر تشبه كثيرا التفاسير المختلفة التي يستند إليها البشر في محاولتهم سبر أغوار النصوص. علم الخطاب يقول من الصعوبة بمكان الاتفاق على تفسير واحد لأي نص من النصوص، لأن قراءتنا لا بد أن تختلف لأننا أساسا مختلفون وقد خلقنا الله كذلك.
كثير من "الكلمات" ما هي إلا تفاسير مختلفة لنصوص أسفار ثابتة لا نستطيع تبديلها. واختلاف التفسير ما هو إلا وجهة نظر، ووجهة نظر تلد الاختلاف. في الأديان تنتج مذاهب مختلفة وضمن المذاهب فرق مختلفة. وهذه سنة الحياة.
الخطورة تأتي عندما أقول إن وجهة نظري "الكلمة" أقدس وأرفع شأنا وسموا من "كلمتك". والخطورة تأتي عندما أجعل ذلك جزءا من الخطاب الذي أمارسه يوميا وأتصرف بناء عليه. إن وصل الأمر بنا إلى الحد هذا أدخلنا أنفسنا ومجتمعاتنا في أزمات وكوارث.
المجتمع الذي تقوده وجهة النظر أو "الكلمة" التي تعبر عنها يبقى متخلفا وفي حالة صراع دائم. وجهات النظر فيها الكثير من العاطفة وتنبع من القلب وليس العقل.
البشر باستطاعتهم التقدم والنهوض وبناء حضارة مزدهرة ومجتمعات تسودها المساواة والأخلاق الإنسانية الحميدة عندما يضعون وجهات نظرهم جانبا ويكفون عن التشبث بـ "الكلمة" التي يستخدمونها لتوصيفها. المنطق والعقل والبعد الإنساني السليم يرى الناس سواسية بغض النظر عن وجهات نظرهم وميولهم و"الكلمة" التي يستقونها من المعجم للتعبير عنها.