Author

حين يداهمك القلق

|
يداهمك القلق أحيانا، حين ترد إليك رسالة أو اتصال من أحد ما عالق في مكان ما، ينتظر أو يتوقع منك حلا أو إجابة لأمر ما، وحين تأتي تلك الرسائل بطريقة مهذبة جدا لا تملك أمامها إلا أن توافق. وما أن يسكب المرء ألمه وعناءه، أو جزءا من همه وحيرته، أو سهده ولوعته، لا يعرف أنه بذلك يلبِسك ثوبه وكيسا من الرمل، ويدفعك إلى البحث معه بحملك الثقيل عن مخرج في جدار لا تعرف أين بدأ وأين ينتهي. الشعور بعدم الجدوى هو ما يرهقك أكثر، حين تهزمك دموع الإحباط، لتبلل كيس الرمل، وتزيد من ثقله مهما حاولت أن تبقيه جافا. كانت البرودة تلامس الـ 12 درجة صباح ذلك الديسمبر، برودة قد تغريك لتغفو مدة أطول في دفء فراشك. ولكن عليك أن تقاومها وتستيقظ، إذ كانت لدي التزامات علي إنهاؤها وتسليمها في العمل ذلك اليوم. حين اقتربت الساعة من العاشرة، شعرت أن الوقت بدأ ينفد أمام ما تبقى من أعمال، ليتحول المزاج إلى شيء لا يحتمل، ومن مزاجه مبتهج من الأساس في ذلك الوقت من العام الذي ينتظر فيه كل مديري العالم تقارير نهاية السنة. اهتز الهاتف لتضيء شاشته برسالة "أحتاج إلى مقابلتك ضروري. سأنتظرك بعد انتهاء العمل في الردهة أمام البوابة التي تخرجين منها - سهيلة"، من هذه؟ لا أعرفها. ومؤكد هي أيضا لا تعرفني. هل أرد عليها بالموافقة. أم أسألها من أين لها أن تدري من أي بوابة أخرج. وهل لدي متسع لهذا. يكفي أن نهاري مزدحم! تجاهلت الرسالة وأكملت تحديث بيانات التقرير الذي كان علي تسليمه قبل الواحدة ظهرا، وهذا يعني لا وقت لاستراحة الغداء اليوم. يا ترى من سهيلة؟ أغمضت عيني لثوان اعتصر فيها ذاكرتي، فنزلت قائمة الأقارب والأصدقاء فلم أرها، فتشت سريعا في قائمة المدرسة فلم أجدها، حاولت تذكر أسماء من عملوا معي السنوات الماضية، دون جدوى. يا إلهي، لا أصدق أنني أهدر مزيدا من الوقت من أجل تلك السهيلة، وصل بريد إلكتروني من رئيس يقول "أرجو إرسال التقرير قبل الـ 12:30 للمراجعة ــــ شكرا" حضر ذهني مرة أخرى، وانهمكت بإكمال التقرير بقلق شديد، لقد استطاعت أن تشتت تفكيري وتشغلني دون حتى أن أعرفها، فماذا سيحدث إن قابلتها؟، وهل سأقابلها حقا؟، لا أعرف، ولكن تبدو واثقة ولم تترك لي فرصة للقبول أو الرفض، وهل هذا وقت مناسب لتحتل فيه رأسي الذي أحتاج إليه بشدة، يجب أن أركز أكثر، المرة الماضية التي قدمت فيها هذا التقرير، أخذت ملاحظة على ثغرة أخرجها السيد الرئيس بالملقط، إذن لا داعي لأن أقسو على نفسي، لأنه حتما سيتمكن من إخراج ذرة الرمل السوداء من بين كثبان الدهناء هذه المرة. ضحكت داخل نفسي حين تخيلته يبلل سبابته بطرف لسانه، ويضعها على الذرة ليلتقطها ويضعها في عيني لكي أراها بوضوح، كثيرا ما كنت أتساءل لماذا لا يعد الرئيس التقرير بنفسه بدلا من أن يخرج منه "القطط الفطسة"؟ هل لأنه رئيس، والرئاسة لدى البعض مجرد تدوير وتوزيع المهام؟، كيف يحلل إذن راتبه، بتشغيل عقله الكبير فقط واتخاذ القرارات المصيرية، هذا لا يكفي، حتى الرئيس يشعر بالتوتر ويضطرب من اتخاذ القرار بمفرده، وفوق ذلك عليه أن يكون مرنا بالتحول لكبش فداء في أي لحظة، ويتقبل أي إهانة "في سبيل التاج"، في سبيل أن يصعد. كم هي مثيرة للشفقة تلك التحديات الإدارية.لا يهم الآن، المهم أن أنهي هذا التقرير لأغادر إلى بيتي دون أن أضطر إلى الجلوس لساعات إضافية ربما لا أتقاضى عليها أجرا، فهناك حياة بأكملها تنتظرني خارج ساعات العمل وعلي أن أتعايش معها، و لا أذكر حتى أنني تعايشت مع معدتي وتناولت شيئا سوى القهوة منذ الصباح، هل ابتلعنا العمل لهذه الدرجة، وأصبح يسرقنا حتى من أنفسنا؟ هل فشلنا في إظهار احتياجاتنا أمام متطلبات العمل؟! لا أعتقد، ولكن الرئيس ينسى أحيانا أننا بشر وقد نتعب أو نجوع، أو نشعر بالضيق الشديد من الضغط. ابتعدت للحظة عن مكتبي، الذي قيدني منذ الصباح وجعلني سخرة لمهام لا تنتهي! ليجتاحني القلق من تلك السهيلة مرة أخرى، أيعقل أن تكون في حاجة "لواسطة" مثلا؟ كيف، ولا نفوذ لدي على أي شيء في هذا العالم المتناقض الذي يزداد جنونا يوما بعد يوم، ماذا لو طلبت مالا؟ في هذا الوقت من الشهر لن تصدق بأن الراتب تبخر، أخشى أن أشعر بالحرج أمامها وأضطر إلى أن أقرضها جزءا من الرسوم المدرسية التي أجمعها من أول السنة، يا للكآبة.. هذا الموضوع بمفرده جاثوم سنوي. انتهت ساعات العمل، فاختبأت وراء نظارتي الشمسية وخرجت. قبل البوابة لمحت امرأة على عجل من أمرها تلوح لي يمين الردهة، اقتربت منها فقالت دون مقدمات: "أنا سهيلة، سقطت منك هذه في الصباح ولم أستطع اللحاق بك "ثم ناولتني محفظة نقودي .. وغادرت مسرعة!
إنشرها