الهوية السياحية للمدينة.. رؤيةٌ ثقافيةٌ ذات أثر اقتصادي

لفت انتباهي قبل عدة أيام إطلاق هيئة تطوير المدينة المنورة الهوية السياحية للمدينة التي بلا شك هي آلية جديدة في السعودية اعتمدت في بعض المناطق، وتسهم بشكل كبير في إعادة تعريف فكرة الاستفادة من تاريخ الإنسان والمكان تحقيقا لمستهدفات مستقبلية ذات أثر اقتصادي وتنموي واجتماعي.
‏وبلا شك أن "هويات المدن" وفق التجارب الدولية انطلاقا من نيويورك ولندن وباريس، وليس انتهاء بطوكيو وبرشلونة وروما، قد أسهمت في تحويل تلك المدن من مجرد أماكن إلى علامات عالمية تسهم في تعزيز اقتصادات تلك المدن وارتباطها بالجمهور المحلي والعالمي، وذلك بالطبع ليس فقط من خلال الهويات البصرية أو الذهنية بل بمجموعة من العناصر التي لمست أن القائمين على إطلاق هوية المدينة المنورة قد عملوا عليها جيدا.
تميزت المدينة المنورة عبر العصور بأنها كانت مركز جذبٍ حضاري واقتصادي، ومع إطلاق هويتها السياحية؛ فإنها تدخل مرحلةً نوعية تدمج بين تاريخها وقدرتها على توليد عوائد اقتصادية مستدامة.
والهوية السياحية ليست تصميمًا بصريًّا فقط وإنما خطة إستراتيجية ستُسهم في تنويع مصادر الدخل المحلي، وتفعيل دور القطاع الخاص، في مجالات الضيافة، والنقل، والخدمات الثقافية، والحرف اليدوية، وكل زائر إضافي يعني إنفاقًا جديدًا، وتدفقًا نقديًّا يعزز الاقتصاد المحلي ويرفع من كفاءة البنية التحتية.
والأهم أن هذه الخطوة تنسجم تمامًا مع رؤية السعودية 2030، التي تسعى إلى تحويل المدن التاريخية إلى محركات نمو اقتصادي، فالمدينة المنورة، بتراثها الغني، قادرة على جذب ملايين الزوار سنويًّا، ليعيشوا تجربة ثقافية متكاملة تُثري زيارتهم وتمدّد مدة إقامتهم، ما ينعكس إيجابًا على الإنفاق السياحي.
وتشير الإحصاءات إلى أن نحو (65%) من المشاريع العمرانية الجديدة في المدينة اعتمدت على العمارة السعودية، فيما سجل القطاع العقاري والسياحي نموًا بنسبة (19.5%) خلال العام الجاري وفق النشرة الاقتصادية لغرفة المدينة المنورة، ما يبرز الاهتمام المتزايد بالهوية الوطنية في التطوير العمراني، ويعزز استدامة المشهد الحضري وتكامل عناصره مع خصوصية المكان وروح المدينة.
وتُجسّد الهوية السياحية الجديدة رؤيةً متكاملة، وتفتح آفاقًا ثقافية وسياحية عصرية، فهي لا تروّج لمكان، وإنما تصنع تجربةً لا تُنسى تجمع بين القداسة والابتكار، وتُلهم الأجيال القادمة بالفخر والانتماء.
وتستمدُّ الهوية السياحية عناصرها من عُمق المدينة التاريخي والثقافي، ومن رموزها الأصيلة المُستلهمة من تراثها، مثل خطّ المدينة الطِّباعي، والحرّات، وأحجار البازلت، وأشجار النخيل، والعِمارة التقليدية، لتُشكّل علامةً بصريةً مُميزة، تجمع بين الأصالة والحداثة، وتُرسّخ صورة المدينة وجهةً تعتزّ بالماضي، وتفتحُ آفاقًا للمستقبل.
وتسعى الهوية السياحية إلى ترسيخ صورة ذهنية مُتجددة للمدينة المنورة وجهةً عالميةً متميزة، وتعزز ارتباطها العاطفي بالسكان والزوار، بوصفها أيقونة تاريخية ثقافية، تربط بين الماضي
وستُسهم الهوية السياحية للمدينة المنورة في تحفيز الاقتصاد المحلي عبر جذب استثمارات سياحية وتنشيط قطاعات الدخل المرتبطة بالزيارة، من ضيافة ونقل وتجارة تراثية، وستدعم هذه الهوية تنويع مصادر الدخل غير النفطية، بما ينسجم مع رؤية 2030 ويُعزز مكانة المدينة كمحرك اقتصادي ثقافي مستدام.
يقول أمين منطقة المدينة المنورة الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير المنطقة المهندس، فهد البليهشي إن "الهوية السياحية" للمدينة المنورة تبرز الفُرص الواعدة أمام المستثمرين والعاملين في القطاع السياحي، الذي يُعدُّ رافدًا حيويًا للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، مفيدًا أن العمل التكاملي مع مختلف الشركاء في القطاعين الحكومي والخاص، يفتحُ المجال لصناعة وجهات سياحية متنوعة، تُسهم في تحسين جودة الحياة، وإثراء تجربة الزوار، عبر استثمار مقومات المدينة الطبيعية والجغرافية، وتحويلها إلى محركٍ رئيسي لصناعة السياحة.
وفي رأيي، يمثل هذا الانطلاق نموذجًا ملهمًا لرؤية ثقافية ثاقبة، فالحفاظ على الإرث التاريخي والهوية الثقافية لا يتعارضان مع بناء اقتصاد سياحي قوي، بل إن المزج بينهما هو الطريق الأكيد لضمان استدامة التنمية، وتحقيق التكامل بين القيم الحضارية والمتطلبات الاقتصادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي