التنمية الاقتصادية في الدول النامية .. من الرؤية إلى الفعل
في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والتقنية، تبقى التنمية المستدامة حلمًا تتطلع إليه الدول النامية والأقل نموًا. ومع أن العالم قد شهد تجارب كثيرة لنماذج تنموية، إلا أن نتائجها في كثير من الأحيان لم تحقق الغاية المنشودة، كما أشار المفكر جيسون هيكيل في كتابه الفجوة، الذي كشف عن قصور النظريات الغربية في معالجة تحديات مجتمعات الجنوب العالمي.
فكل أمة تحمل في بيئتها ومواردها وناسها مفاتيح نهضتها الخاصة، ومن هنا تنبع أهمية تبنّي نموذج تنموي محلي يستلهم خصوصية المكان والإنسان، لقد جسّد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء هذه الفلسفة في رؤية السعودية 2030، حين أطلق مشروعًا وطنيًا طموحًا ينطلق من بيئة السعودية وإمكاناتها ومقوماتها، لا من قوالب جاهزة.
فالرؤية السعودية لم تنقل نموذجًا غربيًا، بل صاغت طريقًا سعوديًا جديدًا يوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين الاقتصاد المعرفي والاستثمار في الإنسان والموارد المحلية. هذه الرؤية أصبحت اليوم مثالًا ملهمًا للدول النامية التي تبحث عن طريقها نحو التنمية المستقلة والعادلة.
إن نجاح أي تجربة تنموية مشابهة في الدول النامية الراغبة في تحقيق نمو اقتصادي يتطلب أولًا قيادات شابة شجاعة تؤمن بالشفافية والمساءلة، وتتبنّى ثقافة الحوار وقبول الرأي الآخر، فالنقد البنّاء مطلوب ورافعة لتصحيح المسار.
ومن هنا نصنع فضاء يسمح بتداول الأفكار من القرية الصغيرة إلى المدينة فالمنطقة ثم الدولة — وفق منهج علمي يقيّم الخطط ويقوّم الأداء . فالمشاركة لا تكون شعارًا بل ممارسة، يتشارك فيها المواطن والمثقف والقطاع الخاص من خلال إعطاء الغرف التجارية الصناعية المنتخبة من رجال الأعمال دور أساسيّ في رسم ملامح المستقبل.
وتُعد البيئة المحلية مصدر الإلهام الأهم في بناء التنمية. لكل منطقة في العالم النامي ميزتها النسبية التي يمكن استثمارها: الزراعة في الريف، والسياحة البيئية في السواحل، و التركيز على القطاع الصناعي لتصنيع كل الاحتياجات بهدف تقليل الاستيراد استعدادًا لأي تحديات كما عشنا أيام جائحة كورونا وقطاع الخدمات بأشكالها الحديثة التي تواكب المستجدات.
فبدلًا من محاكاة نماذج الغرب، ينبغي توجيه الجهود نحو تطوير مواردنا الفريدة، اعتمادًا على المعرفة المحلية والتقنيات الحديثة، كما دعا المفكرون أمثال جيسون هيكيل إلى اقتصاد متجذر في الأرض، يعيد التوازن بين الإنسان والطبيعة.
ومن التجارب الملهمة في هذا السياق تجربة ماليزيا، التي بدأت خطتها التنموية من القرية صعودًا إلى الدولة، مستندة إلى رؤية تشاركية تقوم على محاسبة دقيقة وتعلّم مستمر من الأخطاء. ذلك هو الطريق الذي يضمن استدامة التنمية وعدالتها، إذ تتحول المسؤولية من شعارات إلى ممارسة يومية تتجسد في القرارات والسياسات والمبادرات.
إن التنمية الحقيقية ليست استيرادًا لأفكار الآخرين، بل اكتشاف الذات وبناء الثقة بها. هي عمل تراكمي يبدأ بخيالٍ جريء، ويتحقق بسواعد وطنية واعية. فإذا كانت رؤية 2030 التي بناها ويشرف على تنفيذها الأمير محمد بن سلمان قد انطلقت من السعودية لتؤكد أن التنمية يمكن أن تكون محلية الهوية عالمية الأثر، فإن على الدول النامية أن تؤمن أن مستقبلها لا يُصنع في العواصم الغربية، بل يُكتب ويبنى في قراها ومدنها بأيدي أبنائها.
كاتب اقتصادي ورجل أعمال