المهاجرون .. والمرافعة عن الضمير
ارتبك الغرب أمام قوارب الموت وجحافل اللاجئين السوريين. دخلوا في مزايدة على الضمير وضاربوا على بورصة حقوق الإنسان. وأبكت المستشارة الألمانية ميركل بدموعها عيون بعض العرب، وأخذها آخرون على أنها دموع تماسيح سياسية.
على مدى نحو خمس سنوات، كان الغرب يمارس ماراثون الاجتماعات في القاعات المكيفة، وكان الشعب السوري يمطر ببراميل متفجرة تطحن الرؤوس والنفوس والبيوت والمساجد والكنائس، وسعار "الداعشيين" يحز الرقاب ويبقر البطون ويحرق الأحياء ويحطم تراث حضارة عمرها آلاف السنين.. والوجوه مسمرة أمام شاشات التلفزة والهواتف النقالة يصعقها ما ترى، ويملؤها غيظا ما تشاهده وتسمعه من أقاويل ساسة الغرب الممنوعة من الصرف.
لا السلاح الكيماوي حرك الضمير الغربي ولا افتراس البلاد والعباد بطائرات وقنابل ومدافع الطاغية بشار وميليشيات إيران وحزب الله وانتحاريات "داعش" وعصابات الدم والموت الأخرى.. وظلت الحرب بالوكالة في أقذر صورها هي الرحى التي تدور على أجساد السوريين في انتظار التسوية على حسابهم بين الغرب وروسيا والصين، فليس مهما على الإطلاق أن تلتهم الكارثة الأخضر واليابس، ولا وزن لبشر يفرون من جحيم إلى جحيم في انتظار معجزة.. فيما هرول الغرب في تسعينيات القرن الماضي فأطفأ سعير صربيا، وقاد طغاتها إلى سجن محكمة الجنايات الدولية.
لا يعني هذا أن في الأمر مؤامرة بقدر ما يعني بلادة في الضمير وعدم اكتراث، طالما أن الموت ليس في الحيز الجغرافي للغرب.. أما وقد أفلت الجوار وفاض البحر بقواربه إلى ديار الغرب، فلم يعد ثمة قدرة على البلادة.. لا يفعل تأنيب الضمير السياسي وإنما تحت ضغط الحس الإنساني العام عند شعوب الغرب، الذي هدد صوته بمظاهراته الصادقة مصالح الساسة، وأوقعهم في حمى مزاد المزايدة في الإنسانية.
أسقط في أيدي الساسة، فمارسوا أقصى درجات الاجتهاد في تخليص أنفسهم من محاكمة شعوبهم لهم، انطلاقا من دساتير تحفل بالتغني بحقوق الإنسان، وانطلاقا من وعي كامن تربت عليه هذه الشعوب، فقد وضعها هذا المشهد البائس أمام صور ماض شنيع ذاقوا ويلاته في حربين عالميتين، يعرفون وقعه في النفس، فطابقوا بين ما كان وما هو كائن، فأخرجت هذه المطابقة بثقلها وبردة فعلها ساسة الغرب، وتعتعتهم شيئا فشيئا، إلى أن أخذت تنهار سدود الممانعة والمحاذير.
ليس في هذا الخطاب نكران للهبة الإنسانية الغربية، وإنما تمييز للأصل الشعبي فيها عن السياسي، ولو لم يكن الأمر كذلك فأين هي إنسانية هؤلاء الساسة والعراق يطحن وسورية تطحن وليبيا تطحن على مدى سنوات، وإلى مدى لا يعلمه إلا الله.
ألم يشل مجلس الأمن عن قدرة الفعل رغم صدور قرارات تحت البند السابع؟ ألم يترك الأمريكيون العراق نهبا لتغول إيران والقاعدة و"داعش" بعدما قضوا على جيشه وقوات أمنه الداخلي بالتسريح للمجهول؟ ألم تذهب طائرات وجنود فجر الأوديسا في ليبيا وتترك السلاح زاخرا في أيدي المتطرفين؟ ألم تلحس أمريكا وعيد الخط الأحمر في سورية، وتترك لبشار والروس والإيرانيين وحزب الله افتراس الشعب السوري؟ ألم تترك لعلي عبد الله صالح كل الوقت ليلحس عقل ممثل الأمم المتحدة جمال بن عمرو ويحشو قرى اليمن ومدنه بالحوثيين والإيرانيين وزمرته؟
ومرة أخرى، ليس الأمر مؤامرة وإنما استراتيجية فصام الضمير والحرب بالوكالة، فالأرض ليست أرضهم، والبشر لا يدفعون الضريبة ولا يصوتون في صناديق الاقتراع لهؤلاء الساسة.. وكل ما هو مهم هو الحيلولة دون أن ينتقل الإرهاب إلى حيزهم الجغرافي.. وهو قد أذاقهم نماذج من جحيمه وراح ضحيتها أبرياء.. أما وقد قذف الموج بأناس من حيز جغرافي إلى حيزهم فما عاد هناك من بد لأن يثبت الساسة أنهم قادرون على الإبقاء على ماء الوجه أو شيء منه. وإلا فإن هؤلاء الساسة الذين هرولت الإنسانية فيهم فجأة هم أنفسهم الذين تركوا لأبواق التطرف الإسلامي فضاءهم الجغرافي والإعلامي يزعقون فيه سنوات بشجن غرائزي، يفحّ بالتكفير ويدعو إلى الجهاد ضد بلدانهم والسطو عليها بالحاكمية والبديل والخلافة وغسلها من أدران الجاهلية.. وكم ضللوا وكم جيشوا ولم يتحرك هؤلاء الساسة ضدهم إلا حين مسهم طاعونهم.
وحتما.. ليس بوسعنا إزاء هذا الاستقبال الشعبي الغربي للمهاجرين "بل المهجرين" السوريين، سوى أن نقدر لهم جلال هذا الموقف الإنساني.. وهو موقف لم تمله فقط حالة وجدانية، فثمة نفوس غربية لم تتردد في إبداء عنصرية بغيضة، لكنها أقل أقلية، مثالها الصارخ تلك الصحافية المجرية القذرة التي عرقلت بقدمها أبا يحمل طفله، وشاهد العالم بشاعة وشناعة ما حدث.. ومثلها الموقف الدميم لحكومة المجر.. أجل لم يكن الموقف الشعبي الغربي وجدانيا فحسب، وإلا لسهل جرفه وحذفه والتلاعب به، لكنه الوعي المتجذر بحقوق الإنسان، فهو الذي أنطق الدساتير الوطنية التي قامت على أساسها وأرغمها على أن تقف بالمرصاد لمضاربات الساسة ومماطلتهم ومغالطاتهم، فإما أن يمشوا معها نصا وفعلا أو يرحلوا.
وهكذا كان، فالوعي العام هو الذي رافع لمصلحة هؤلاء المهاجرين.. ولن يألو الساسة جهدا في أن يجعلوا من هذه الحشود المهاجرة فزاعة، وأن يستخدموها في فذلكات الحدود السيادية وقوانينها.. وها قد بدأت المعزوفة من ألمانيا نفسها بعدما حصلت على مبتغاها من بشر ليسوا في نظرها إلا مجرد فرصة لتعويض عجزها السكاني.. والمقبل من الأيام سنشهد فيه مزيدا من هذه المماحكات والألاعيب السياسية، وسنشهد في المقابل أين سيكون موقع الضمير الغربي الشعبي من الإعراب.. هل يفلح في المضي في مرافعته، وكسب القضية لمصلحة الحس الإنساني، أم يتم توسيعه لكيلا يشعر بالتأنيب؟!