مشاجب التطرف

لم تعرف المنطقة العربية في تاريخها الحديث الحروب الدينية أو الطائفية، وإن كانت ثمة حساسية مسكوت عنها بين الطوائف، لكن سمة التعايش كانت هي السائدة إلى حد كبير. فما الذي حدث وجعل من المنطقة بؤرة لهذا العنف الطائفي الوحشي؟
لقد علقت ظاهرة الإرهاب على مشاجب كثيرة مثل المناهج، الخطاب الديني، الفقر، الفساد، الاستبداد، المؤامرة، الأطروحات الغربية مثل صدام الحضارات ونهاية التاريخ، الشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة... إلخ.
الحقيقة أن تلك وغيرها أعراض الأزمة وليست أسسها، وإذا شئنا سبرا لغورها فما علينا إلا مقاربة الأسباب الموضوعية التي أدت إلى وقوع المنطقة تحت ويلاتها.. ويمكن إجمالها بالتالي:
1 ــ من المؤكد أن فشل مشروع النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أبقى على مظاهر التخلف والاستلاب للماضي راسخا في الذهنية العامة دون مساس يذكر، وإن كانت الأنظمة العربية شيدت نوعا من التحديث والتمدين بعد الخروج من السيطرة الاستعمارية إلا أنها لم تفلح في التأسيس للحداثة فقد ارتبك هاجسها الأمني بصناعة التقدم، وتمخض في النهاية عن هزائم ونكسات تضعضعت معها الطروحات عن الدولة الوطنية والقومية والتقدمية مكرسة مفاعيل الإحباط.. وهكذا هيأ هذا الفشل المنطقة للسخط ثم لصعود ظاهرة التطرف.
كانت الصحوة هي المقدمة النظرية لهذه الظاهرة وكان للإخوان المسلمين الدور الرئيس في تفريخ جماعات الإسلام السياسي.. وقد كانت البداية في مصر.. حيث استثمر الإسلاميون محاباة السادات لهم بعد إخراجهم من السجون في انتهازية منه لضرب التيارات السياسية الأخرى وما أسماه بمراكز القوى وطرده للخبراء الروس لتعزيز سياسة "الانفتاح". إلا أن جماعات الإسلام السياسي ما لبثت أن انقلبت عليه، خصوصا بعد زيارته للقدس حتى اغتيل برصاصهم بتوقيع خالد الإسلامبولي.
استفحل الإرهاب في الثمانينيات في مصر وتزامنت الصحوة السنية مع صحوة شيعية بعد ثورة إيران وقفز الخميني والملالي على السلطة فعم البلاء، وترافق مع هذا الجو فيض من الشحن الطائفي والفتاوى والأشرطة والكتب والنشرات الإسلامية التي تجاوبت معها الحواضر العربية وبالذات منطقة الخليج، فغمر المحيط العام صخب الصحويين الهائل وأمعن في جرأته على التكفير والتهديد والوعيد لكل من لا يرى رأيهم.. وصار النشاط المنبري والمكتوب والمسموع والمرئي خاضعا لإملاءاتهم على نحو كاسح!
2 ــ ولأن الصحوة كانت تدير خطابها باسم الدين فقد وجدت الأنظمة العربية نفسها في حرج فدخلت معها في المزايدة والمنافسة حتى أن نظام بو رقيبة العلماني هادن الإسلاميين إلى أن حدث ما حدث. وقد استغل الصحويون ذلك لدفع السلطات إلى الدعم المادي والمعنوي والنظامي لمصلحة مشروعهم.. فتمتعت الصحوة برعاية ومساندة أنشطتها الدعوية ومؤتمراتها وتغولها على الفضاء الاجتماعي ونخبه المثقفة بالذات. وما اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ إلا دلالة مكثفة على ذلك.
3 ـــ انخرطت في الممالاة حتى مؤسسات إسلامية عريقة كالأزهر وبعض الجامعات العربية فإذا هي تركب موجة الصحوة في إنتاجها للكتاب.. والنشاط الثقافي أو التعليم الأكاديمي في البحث ورسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه. التي خف وزنها وغلظ حبرها واكفهر.
4 ــ كذلك هرولت بعض المؤسسات والشركات الخاصة والنشاط التجاري والثقافي، إلى الانجراف في ممالاة ومحاباة للصحوة ودعمها اتقاء لغوغائية الكيد والتربص ورضوخا لها لتدفع عنها ما قد يعكر مصالحها.
5 ــ وحتما.. لا يمكن إغفال العامل الخارجي فقد تم توظيف الإسلام وقودا في الحرب الباردة، ودعم الغرب الإخوان المسلمين والتيارات الأصولية، واستمر هذا الزخم مع المجاهدين الأفغان فطالبان والقاعدة.. كما احتضن "أبوات التطرف" وتركهم يزعقون ضد بلدانهم والحضارة، وعندما استوت الطبخة تخلص منهم، بعدما وقعت الفأس في الرأس، لكن رهان الغرب على الإسلام السياسي ثابر على حماسه كما تبدى في دعمه الإخوان المسلمين في بلدان الربيع العربي.
لقد تضافرت هذه الأسباب الخمسة على اندلاع الهوس الصحوي ومجمل جماعات الإسلام السياسي.. وكان من البدهي أن ينساق المجتمع مع هذا الطوفان الثقيل التدفق، وأن يستشري الحماس له تلقائيا طالما السلطات والدعاة والمؤسسات العامة والخاصة تتنافس في كسب رضا هذا الاتجاه، خصوصا وقد وجد فيها العامة فرصة أن ينقلب الفرد من مجهول إلى شيخ يفسح له في الصدارة من المجالس مثله مثل من هم أكثر علما أو أكبر سنا.. وقد أدى هذا المنحى في صناعة المشيخة وهذا المنحى في صياغة الرأي الشعبي إلى إغلاق الدائرة على خطابات متطرفة لا ترى سوى أنها وحدها تمتلك الحقيقة وتصدر حكمها بجاهلية الأمة وضلال الأفراد.
إن ظاهرة التطرف ليست سمة عربية، فالعالم المتقدم كان ساحة لها أيضا، غير أن التطرف هناك لم يقو على الاستشراء في فضائه العام، فقد كان معزولا اجتماعيا ونجح في إزهاقه سواء تمثل في دول بعينها مثل ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان العنصرية أو تمثل في المنظمات والعصابات السرية الدموية مثل باندرماينهوف والألوية الحمراء والجيش الأحمر الياباني وجيانا وهتلر سكلتر وغيرها من جماعات مهووسة بمنطق ديني شاذ أو أيديولوجيا سياسية عمياء.
لقد كان المواطنون في العالم المتقدم ومازالوا بخلفية ثقافية تتنافر مع التطرف وفي حالة استنفار دائمة ضده.. لكن المحيط العربي بأرضيته المحافظة وبعاطفته الدينية المشوبة بمقولات تماهي مقولات منظري التطرف ظل يعيش مأزق التباس في الوعي مع شعارات ودعاوى جماعات الإسلام السياسي، فهي تتحدث إليه بنصوص يشترك معها فيها وجدانيا.. سواء كان من القرآن أو الأحاديث أو أفعال الصحابة وأحداث التاريخ الإسلامي، ولذلك حدث قدر من التماهي بين خطاب المتطرفين وعاطفة الجمهور.. ولو لم يكن الأمر كذلك لما رأينا كيف كان فوز الإخوان المسلمين كاسحا في مصر وليبيا وتونس والجزائر والسودان.. ولما سمعنا عن رجال ونساء وشباب يكررون التحاقهم بالقاعدة وداعش وغيرهما.
المفارقة في كل ذلك.. أن جميع من شارك في مسايرة الصحوة وأفراخها الوحشية وفي مساندتها ودعمها حاول التنصل منها ومن دوره فيها فالداخل علقها على مشجب المؤامرة والتغرير والخارج علقها على مشجب كراهية المسلمين له.. ولعب المتطرفون على تأجيج هذا التناصل في (إدارة التوحش) قولا وفعلا.. وها إن الجميع قد وقع في مصيدة صيحات الحرب العالمية على الإرهاب والتخبط في متاهته الغامضة حيث لا يكاد يتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي