Author

نستطيع التقدم للعالم الأول.. لكن هل نريد؟

|
تقدم الأمم تحدثه الإرادة وليس الإمكانات المادية. هذه حقيقة تغيب في خضم اندهاشنا من الثروة التي أمطرت علينا من السماء دون حول منا ولا قوة فأصابنا المرض الهولندي الذي تراخى فيه المجتمع الهولندي عن الإنتاج والابتكار نتيجة الثروة البترولية إلا أنهم تنبهوا إلى المشكلة فتحولوا من الاستهلاك إلى الإنتاج بتوظيف ثروتهم في استثمارات صناعية وتنمية قطاع التصدير. هكذا هي الشعوب اليقظة الواعية التي تدرك مآلات الأمور بفكر منطقي يربط بين المقدمات والنتائج. الأهم أنها تسعى للتغيير والتكيف مع الأوضاع الجديدة وتتحمل تكلفته وتسارع بتصحيح الأخطاء بأسلوب مؤسساتي يضمن الاستدامة. ونحن في هذه البلاد مضى علينا زمن كنا فيه منتجين رغم ضعف الإمكانات المادية فلقد كان منطلق السلوك والقرارات الفردية والجماعية لدينا ثقافة الندرة التي تدفع نحو البحث عن حلول وفرص وبدائل لزيادة كفاءة الإنتاج في ظل محدودية الموارد. لم يكن الناس يستكينون ولا يهنأ لهم بال حتى يجدوا وسيلة جديدة لتحسين معيشتهم وهكذا في عمل دؤوب يواجهون به تحديات بيئتهم القاسية وشظف العيش. وارثنا الاجتماعي مكتنز بقصص النجاحات والإنجازات. وهي نجاحات وانجازات تراكمت عبر السنين توارثتها الأجيال شكلت في وقت من الأوقات هوية وطنية وثقافة مجتمعية قوية عمادها الالتزام بالدين وحب العمل واحترام العادات والتقاليد. لقد طورت الأجيال السابقة معارف متخصصة بالرعي والزراعة والتجارة والبناء تتناسب مع إمكاناتهم بل تفوقها. بهذه العزيمة والإصرار سافروا لأنحاء الدنيا فكونوا إمبراطوريات تجارية في الهند والعراق والشام والخليج وبرز منهم اقتصاديون وسياسيون ومهنيوين أسهموا في جهود التنمية في تلك البلدان. وقد يكون توحيد البلاد السعودية شاهدا على ما كان يتمتع به جيل التأسيس من الاتكال على الله وقوة العزيمة والرشدانية في صنع القرارات. لم تكن الرفاهة والتبذير مطلبهم وإنما الاقتصاد في كل شيء ووضع الأمور في نصابها. لقد كانوا يعرفون قيمة الحياة والوقت فيوظفونه فيما ينفع ويزيد من المساهمة في تنمية مجتمعاتهم الصغيرة المترابطة والمتكاتفة ويعزز هويتهم ويحافظ على ثقافتهم. ولإدراك الاستفادة من إرث الأجداد يلزم التركيز على أسلوب تفكيرهم في التعامل مع التحديات التي واجهتهم والانتقال من مستوى إلى مستوى أعلى من الحلول بالمعرفة التراكمية. فهم يجعلون النجاحات التي يحققونها قاعدة انطلاق لنجاحات أخرى. لقد كان بحق مجتمعا معرفيا لأن الأعمال الزراعية والرعوية والتجارية كانت تؤدى بناء على التقاليد المهنية والأعراف السائدة في إطار الثقافة المعرفية المحلية. هناك الكثير من النجاحات التي تحققت لكنها كانت نجاحات يتيمة لم تستثمر الاستثمار الكافي ويتوسع في دائرة تأثيرها على سبيل المثال مضى على الرحلة المكوكية التي قام بها الأمير سلطان بن سلمان ما يقارب الثلاثين عاما وهي رحلة تاريخية لا تسجل فقط باسم السعودية، ولكن العالم الإسلامي وهي ذات دلالة عالية ورمزية بأننا نستطيع خوض غمار تجربة كانت تبدو مستعصية ولا تدخل ضمن اهتماماتنا. لقد كسرت تلك الرحلة الفضائية الحاجز النفسي وأثبتت أنه بإمكاننا الاستفادة من هذا المورد الهائل في الفضاء الواسع. وعلى الرغم مما كانت تكتنفه تلك الرحلة من مخاطر كبيرة إلا أنها أثبتت شجاعة الفرد السعودي ممثلة في الأمير سلطان بن سلمان. وبعد الاحتفالية التي سادت البلاد بهذه المناسبة وسعادة الناس بأن يكون من بينهم من يتقدم الصفوف ويخاطر بنفسه للوصول إلى حدود الفضاء الخارجي، عادت الأمور إلى ما كانت عليه وطوى النسيان ذلك الحدث العظيم ولم يتم الاستفادة منه في تطوير المعرفة بعلوم الفضاء وتعزيز روح المبادرة والابتكار لدى الشباب وإيجاد ثقافة جديدة بأننا نستطيع. والحديث هنا لا يختزل في أبحاث الفضاء والطاقة وهي مهمة وإنما أيضا في الانطلاق نحو العالم الأول في جميع مناحي الحياة وننفك من قيود التفكير والقيم البيروقراطية التي قيدت انطلاقتنا لتنمية حقيقية نرتقي فيها سلم التقدم الحضاري ونقوى صناعيا واقتصاديا ومعرفيا ونسهم في الحضارة الإنسانية ونسبر أغوار المستقبل. التنمية الحقيقة تكون بهدف التحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع متقدم تنتظم فيه الحياة بعقد اجتماعي يحدد من يعمل ماذا؟ وكيف؟ أن تحقيق الانطلاقة إلى العالم الأول يتطلب إعادة هيكلة لنظمنا الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والعودة مرة أخرى إلى ثقافة الندرة. لا شك أن لدينا الإمكانات، ولكن السؤال المهم: هل نريد؟
إنشرها