الرجل الذي خرج على الإجماع
مرت البشرية بطفرات نوعية غيرت وجه التاريخ ومساره. فقد أدى اكتشاف الإنسان النارَ إلى تبديد ظلام الليل، وامتد النشاط إليه، والتدفئة والحماية من الوحوش وطهي الطعام. أما الزراعة فقد مكنته من توفير المحاصيل، واستئناس الحيوانات، ونشوء الأسرة والاستيطان.
بينما ساعده اختراع العجلة على التخفف من حمل الأثقال، وتوسيع نطاق حركته وتوظيفها في أعمال أخرى، فيما دفعته اللغة إلى التواصل الجماعي والتعبير الشفهي عن خلجاته، لتأتي الكتابة طفرة كبرى استخدمها في توثيق المعرفة والخبرة والتجارب والمعاملات، وما يعتمل في الذهن أو يجيش في الوجدان، وليبدأ بها عصر الخلود الثقافي.
وقد استرعت تلك الطفرات السحيقة ثم ما جاء بعدها، خصوصا ما جاءت به الحداثة من ثورات علمية ومؤسسية انتباه الدارسين إلى التطور الحضاري، والكيفية التي تم بها حدوثه، ويكاد يكون الإجماع سائدا على أن التطور هو وليد تواصل تراكمت على مساره المعرفة والخبرة فأدى ذلك، بعد كل حين، إلى شكل مختلف للحياة ونوعها.
الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 -1984) وقف وحده بالمرصاد، وخرج على هذا الإجماع مؤكدا عكسه تماما، فقد قال إن الانفصال "القطيعة" وليس الاتصال هو ما يحدث الانقلاب الثوري الهائل في موكب البشرية، وإننا يمكن أن نكتشف ذلك من خلال نظم المعرفة التي تسود كل مرحلة من التاريخ.
لقد لجأ ميشيل فوكو للبرهنة على حدوث القطيعة إلى منهج سماه "حفريات المعرفة"، وهو عنوان كتاب شهير له، عزز فيه ما كان قد طرحه في كتابه "الكلمات والأشياء"، إضافة إلى ما كان قد قام به من تنقيب معرفي في كتبه الأخرى حول السجن والجنون والجنس والمراقبة والعقاب والعيادة والتمريض؛ إذ بين فيها كيف اتسمت كل فترة بخطاب له عبارات توضح نظرة أولئك إليها، وكيف تعاملوا معها تحت تأثير سلطة المعرفة الناجمة عن السلطة بمفهومها العام "نظام الحكم من القبيلة إلى الدولة" أو غيرها: من سلطات كالأحزاب، الجمعيات، النقابات أو كالأب، المعلم، رجل الدين، رئيس العمل... إلخ، ما يؤكد أن معرفة (ما) تسود إلى أن يحل محلها أخرى تنفصل أو "تنقطع" عنها حتى تحدث قطيعة معرفية كاملة تقصي بشكل كاسح ما قبلها.
انطلق ميشيل فوكو بقطيعته المعرفية من منظور علم "نظام الأفكار" الذي كان هو رائده، وعين أستاذا له في "الكولج دي فرانس": وقد أحدث في الغرب، بل العالم زلزالا وافتتانا بـ "القطيعة المعرفية"، حتى باتت عبارته هذه على كل لسان.
فإلى أي حد كان فوكو محقا في موقفه الفلسفي هذا؟ وهل تراه بالغ وتطرف؟ خصوصا أن هناك من وافقه، لكنهم قالوا إنما تحدث القطيعة "نتيجة" لزخم الاتصال، كما أن هناك من قال: إن لا شيء يمضي على الإطلاق، فإما أن يبقى له حراسه الأحياء وإما يبقى كامنا في اللاوعي.
وهذا مؤداه أن القطيعة هي الوجه الآخر للاتصال، وذلك ما يرفضه فوكو تماما، على أساس أن القطيعة لا تتصل مع سابقها، وإنما تنقطع كلية عنه بقوة اندفاع إلى الأمام، يرضخ معها السابق إلى الاندثار أو التغير، وإعادة إيجاد نفسه من جديد في ضوئها.
وقد حدث هذا مع الثورة الفلكية لكوبر نيكوس وجاليليو وجيرارد وبرونو عن دوران الأرض حول الشمس، أو الثورة الفيزيائية لإسحاق نيوتن في قوانين الجاذبية والقوة أو الثورة السيكولوجية لفرويد عن أن اللاوعي هو ما يتحكم فينا وليس الوعي أو نظرية النسبية لآينشتاين التي فتحت عصر غزو الفضاء.. وما ثورة تقنية المعلومات إلا تجليا لآخر قطيعة معرفية مؤشرها العولمة التي جعلت من العالم قرية ستؤول إلى قطيعة كلية سيتغير معها شكل ونوع الحياة على الأرض والنظرة للكون والتعامل معه.. وبما لا يمكن التكهن به.
كان فوكو حاسما في موقفه، لا يريد أن يعطي الماضي سلطة في قيادة التاريخ، وإنما للمستقبل. فقد كان مستقبليا بامتياز، مع أنه بدأ مشروعه في الحفر المعرفي ليقدم نقده للحداثة بل مرتبته لها لكونها أدت إلى كوارث كالاستعمار وحربين عالميتين وأسلحة دمار شامل وتدمير للبيئة وأنظمة شفونية وشمولية، حتى اعتبروه من تيار ما بعد الحداثة، وبذا يكون قد تحول بمرثيته للحداثة إلى حفاوة بالمستقبل، سواء أراد ذلك أم لم يرد!!
والحقيقة.. إن فوكو شكَّل بذاته "قطيعة" مع كل من سبقوه أو عاصروه، لكنه مع ذلك قوبل بالتقدير حتى من المختلفين معه فقد رفع له الجميع قبعاتهم.