العيش على لحم الرأس
حدثني ذات مرة الكاتب المصري الراحل الدكتور بدر الديب عن واقعة حدثت معه أثناء عمله في الصحافة. حينها طلب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الاجتماع بالصحافيين والكتاب، وفي ذلك الاجتماع طلب بدر الحديث.. قال: قلت له: "إحنا يا سيادة الريس عايشين على لحم رأسنا!"، ولما سأله عما يقصد، قال له: إن منع دخول الصحف والكتب الغربية إلى مصر يجعلهم لا يعرفون ما يكتبه أولئك الغربيون عن مصر والعرب، فاكتفى عبدالناصر بالابتسام، وظل الحال على ما هو عليه.. وظل الصحافيون والكتاب المصريون يتلمسون المعلومات والمعرفة عن طريق ما تبثه إذاعات الغرب ووكالات أنبائه وما يتم تهريبه.
ما يهمني في هذه الرواية هو "لحم الرأس"، الذي يعني الاعتماد على مخزون معرفي سابق، راكد أو نمطي في مادته، ومشوش في رؤاه لا يقود إلا إلى التخرص والظنون الذاتية عوضا عن البناء على مصادر المعرفة والمعلومات المتطورة والحقائق الحية على أرض الواقع.
ومع أن لدينا كتابا وكاتبات من ذوي الاختصاص، حملة الدرجات العليا، ينشرون مقالات وكتبا مشرفة، إلا أن مرجعية "لحم الرأس" باتت ظاهرة مستشرية في كثير من الكتابات، رغم وفرة مصادر المعرفة باللغتين الغربية والأجنبية، فضلا عن أننا في عصر تقنية المعلومات التي لا تتطلب سوى لمسة أصبع على مفاتيح الكمبيوتر أو الهاتف المحمول.
إن القارئ ليتساءل عن جدوى نشر مثل هذه المقالات الإنشائية؟ طالما هي لا تحمل زادا معرفيا أو معلوماتيا ولا طرحا موضوعيا أو تحليلا منهجيا ولا رؤية محددة، وإنما سرد انطباعي مشوش لظنون وتهيؤات مثلها مثل الهواجس في رأس أي إنسان في حالة سرحان!!
نقرأ لمتخصص في الاقتصاد، الاجتماع، الإدارة، العلوم السياسية، التربية... إلخ وبالكاد نعثر على ما يوحي أن صاحب أو صاحبة هذا المقال على إلمام بتخصصه أو أنه على دراية بأصول البحث العلمي التي على أساسها نال شهادته العليا.. ولا تتوقف النقائض عند عدم اتساق المقدمات مع العرض والنتائج.. بل تتجاوزه إلى انفلات في السياق، تتراكم فيه العبارات من دون علاقة منطقية تربطها بالموضوع.
أما الإحالات المرجعية والأدلة الدامغة والحقائق العلمية والاستنتاجات والاستشهادات فلن تتعدى كليشيهات من الجمل المضللة والمحبطة من نوع: "وأثبتت الدراسات" أو "يقول العلماء" دون أي ذكر لعنوان الدراسات ومن قام بها ومتى وأين؟ كما عليك رغم أنفك تصديقه في مجهول "العلماء"، كذلك عليك أن تبصم بالعشرة على استنتاج خطير تزفه لنا العبارة البلهاء: "وأثبتت المرأة السعودية"، وكأنها من غير فصيلة البشر لينعم عليها بكفاءة عقلية، تتجاوزها أحيانا إلى عموم المواطنين، لتصبح "أثبت المواطن السعودي"، وكأن هذا المواطن من كوكب آخر، فيما يعتصم الاستشهاد، في الأغلب، بمقولات هامدة، لكن "لحم الرأس" يأبى إلا إبرازها؛ لأن للاسم رنينا خاصا، لا يطيق كاتبها تفويت فرصة الإشارة من خلاله إلى سعة اطلاعه!
فكيف أقال أولئك تخصصاتهم؟ وما سر هذه العشوائية؟ ولماذا لم تتشكل لصاحب الاختصاص بنية معرفية ولغوية في مجاله؟ وكيف لا تظهر معالم مادته التي تعلمها، كما يغيب ما هو مفترض من اطلاع لاحق لا غنى عنه للمواكبة؟
فالمقال يبدأ بتصريح لمسؤول أو إشارة إلى حدث أو استشهاد بنص... إلخ.. ثم تمعن الثرثرة في إعادة إنتاجها بالموافقة مدحا أو بالمخالفة قدحا وتعليقا مفرطا بالقص واللزق بين آراء "لا يجمع بينها إلا إرغام الكلمات على الاصطفاف في سطور.. ليكون مقالا.. والسلام!!
إن تفشي ظاهرة "العيش على لحم الرأس" لا يفسر خفة وزن كثير، ما يكتب بأقلام أهل الاختصاص في صحافتنا فحسب، وإنما يفسر كذلك هشاشة مستوى إنتاج الكتاب في جامعاتنا.. فقليلة هي الكتب المميزة، خصوصا في العلوم الإنسانية، سواء تأليفا أو ترجمة، بينما نجحت جامعات عربية منذ الثلث الأول من القرن الماضي في تقديم مؤلفات مرجعية قيمة.. ما زال بعضها ملجأ عديد من أكاديميينا، يستلون منها مذكراتهم لطلابهم أو يحيلونهم إليها.
وإذا كان جدنا الشاعر زهير بن أبي سلمى، ـــ وقبل ابنه كعب ــــ قد احتج قبل نحو 15 قرنا، على اجترار السائد والمألوف في ثقافة عصره، بالقول:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا
فما عسانا نقول، في عصر المعرفة وانفجار المعلومات.. سوى: آه.. منك يا لحم الرأس!!