النووي الإيراني .. والتنين الصيني

لقد قيل وسيقال الكثير عن الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى، وقد تباينت الآراء حوله بين من لم يخف مباهاته بنجاح إيران، وبين من ينحي باللائمة والعتب على دول المنطقة.
لكنني أرى أن هذا الاتفاق قد انتهى إلى ما يشبه قول المثل المعروف "لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم"، فالشروط "المعلنة" لم تبق من جعجعة ممانعة إيران وخطوطها الحمراء شيئا، بل زاد الرضوخ أكثر لإملاءات الدول الست. ولعل ما يفسر قبول إيران به هو رهانها على المدى الزمني لالتقاط الأنفاس، بعد ما بات واضحا أن وضعها الداخلي والخارجي أصبحا من الحرج بحيث يصعب تحمل المزيد فهو ينذر بالمخاطر.
إيران ترزح تحت أثقال داخلية اجتماعية واقتصادية ضاغطة بلغت حد السخط الشعبي والتفجر في بعض تركيبتها القومية، وضاعفت المغامرات الخارجية من هذا الثقل بتحكم عقدة القصاص من التاريخ لتحقيق الهيمنة الصفوية وخصوصا أن الجيل الطالع الإيراني يزدري ذلك ويريد أن يعيش بسلام، وليس حطبا لنار الولي الفقيه.
السؤال هنا هو: لماذا انتظر الغرب كل هذه السنين وأطال نفسه معها؟ طبعا ليس ذلك بسبب شعور إنساني وإنما لأن هذا البال الطويل خلفيته التاريخية التي بدأت مع سياسة "الاحتواء المزدوج" كما أعلنها مارتن إنديك في إدارة كلينتون بهدف تركيع عراق صدام حسين وإيران الملالي.. بضربهما ببعض وإيهام كل طرف أن أمريكا تدعمه.. وقد انتهى مطاف الاحتواء إلى غزو العراق.. وتم الإبقاء على إيران تحت سيف العقوبات مع إفلات يدها فيه، أما الملف النووي فترك لعشر سنوات مفتوحا على الطاولة وتصريحات الوعيد ومسارعة أمريكا إلى إسرائيل للطبطبة عليها لضبط النفس كلما رفعت وتيرة تهديدها بضرب إيران!
ليس مبعث هذا "الصبر" لمجرد النهم لنفط إيران والاستثمارات المتوخاة عندها وحجم سوقها فهذا البعد الاقتصادي، على أهميته، لا يمكن مقارنته بنفط الخليج والاستثمارات فيه وحجم السوق العربية عموما وكثافة السكان.. إنما لأن ثمة عامل آخر يؤرق أمريكا وهو الخوف من التنين الصيني.. القوة المتعاظمة التي تحسب لها أمريكا والغرب كل الحساب.
أقصت أمريكا عبر الاحتواء المزدوج العراق بعد غزوه لتنفرد بإيران، مطمئنة إلى أن دول المنطقة حلفاء تقليديون لها فمضت في تنفيذ الشق الثاني من الاحتواء بممارسة طول النفس، عبر قنوات سرية وخلف ظهور حلفائها لإنجاز هذا الاتفاق، إلى جانب محاولة تخفيف الصدمة على الحلفاء بطمأنتهم بالدفاع عن بلدانهم.. معتبرة أنها بذلك قد حققت نقلة نوعية استراتيجية على رقعة شطرنج مستقبل الصراع مع الصين.
ما دفعها إلى هذا التهافت هو خوفها وهي ترى عدوها اللدود القديم الجديد روسيا لا تناكفها في رسوخ العلاقة مع إيران فقط وإنما لفعل الشيء نفسه مع التنين الصيني، كما يعزز هذه المخاوف كون الصين ذاتها قد شقت طريقها لأخذ "مجموعة دول البريكس" معها لا سيما بعد الإعلان عن إنشاء بنك للتنمية وصندوق للاحتياطي لهذه المجموعة اللذين يوحيان بتهيئة الميدان الدولي للخلاص من البنك الدولي و"صندوق النقد الدولي" اللذين تهيمن عليهما أمريكا.. وما يعنيه ذلك من تبادل للعملات بينها أو تتويج قادم للعملة الصينية وعلاقات اقتصادية وبالتالي وجود تكتل مقارع للدولار وللاقتصاد الأمريكي.
على نحو آخر.. ترزح أمريكا في الوقت الراهن تحت دين عام معظم تريليوناته للصين، كما أن جنود "حصان طروادة" الصيني ـــ السلع والبضائع منتشرة في السوق الأمريكية، تزاحم منتجاتها، فضلا عن أن الصين، وهذا ما تعرفه أمريكا جيدا، ليست بضائع وسلعا، وحسب وإنما هي قوة عسكرية وقدرة تقنية في الأرض والبحر والفضاء.. وأن تفوقها يتسارع وينافس في كفاءته وسعره.
لهذا.. استماتت أمريكا والغرب معها في إهراق ماء الوجه بدلا عن غطرسة القوة التي عرفت بها.. لأنها رأت أن التفريط في إيران سيجعل الصين عند عتبات نفوذها ومصالحها في المنطقة.. بل إن الخشية تتعاظم وهي ترى أن حديقتها الخلفية "أمريكا اللاتينية" تكاد تفلت منها بتوجهها لمجموعة البريكس.. ما تعتبره أمريكا إمعانا في تعزيز قدرات هذا التنين الصيني المتربص بها على ما ظلت تراه مجالها الحيوي.. هناك.. كما هنا.
لكن .. هل تملك إيران بكل تعقيدات الداخل والخارج القدرة على أن توفر لأمريكا ما تتوخاه منها؟ أي هل طبيعة الدولة الإيرانية الحالية تستطيع أن تكون لأمريكا موقع قوة لها في المواجهة ضد الصين؟ وهل لديها الكفاءة السياسية والثقافية للاحتفاظ بعلاقة تجمع فيها بين القوتين الأمريكية والصينية، فلا تفرط بالأخيرة ولا تحبط الأولى؟
سنكون خياليين فيما لو اعتقدنا أن بإمكان إيران أن تلعب هذا الدور.. أما أمريكا، فلا يقدم لنا تاريخ سياستها الخارجية سوى حصاد من النكسات، ولعل الاستثناء الوحيد فيه هو الحرب العالمية الثانية وبإبادة النووية.. فهي على الدوام كالثور الذي يداهم حانوتا للأواني الخزفية يحطم ولا ينجو من الخدوش.
ومع أن هذا الثور مشى وئيدا في مسألة الملف النووي الإيراني لأن عينه على الصين.. فهل تراه سينجو ــ هذه المرة ـــ من الخدوش أم سيتلقى بدلا منها شواظ التنين الحارقة؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي