من البيروقراطية إلى البناء المؤسسي للجامعات

تمثل الجامعات الركن الأساس في التنمية الوطنية والسبيل للانعتاق من حال التخلف، فإن صحت صحة التنمية فما انطلقت الأمم في مضمار الحضارة والتنافس الاقتصادي والصناعي إلا بفضل الجامعات تدريسا وتدريبا وبحثا واستشارة وخدمة للمجتمع. وربما اعتبر الكثيرون هذا الطرح من البدهيات المدركة ومن المشاهدات الماثلة للعيان، إلا أن المعرفة شيء وتطبيقها شيء آخر. ولذا لا يكفي أن تكون هناك جامعات تحمل الاسم ولا تحوي مضمونها ولا تقوم بوظائفها ولا تقدم قيمة مضافة للمجتمع ولا تقود التغيير للأفضل ولا تسهم في الحفاظ على الثوابت الوطنية. وإذا كان هناك تدرج في وظائف ودور الجامعة حسب المرحلة التاريخية والمستوى الحضاري للمجتمع فإن ذلك يعني ألا تبقى الجامعات عند مستوى معين من التطوير المؤسسي ولكن لا بد أن تنتقل إلى مستويات أعلى تلبي احتياجات المرحلة الاقتصادية والصناعية وتسهم في رسم مستقبل المجتمع. ولذا لم يعد كافيا أن تقوم الجامعات بوظيفة التدريس على حساب وظيفتي البحث وخدمة المجتمع. ليس ذلك فحسب ولكن لا بد من الارتقاء بجودة التعليم والبحث وخدمة المجتمع. لقد أصبحت الجامعات على الرغم من الميزانيات الضخمة التي تخصصها لها الدولة مجرد حاضنات للفئات العمرية من 18 إلى 24 لمنحهم شهادات هي في معظمها لتلبية متطلب اجتماعي وليس اقتصاديا ومهنيا. وإذا لم تكن هناك استراتيجية وطنية لما ينبغي أن نكون عليه كمجتمع بعد 30 أو 40 سنة فكيف لنا أن نرسم رؤية التعليم الجامعي ونحدد التخصصات المطلوبة؟ لذا يبقى التعليم الجامعي مجرد اجتهادات ومبادرات صادقة ولكن دون استراتيجية واضحة المعالم.
إن قوة اقتصادنا الوطني مرهونة بقوة الجامعات ولكن لا يمكن للجامعات تأدية دور مؤثر إلا بالتحول من منظمات إلى مؤسسات وهذا يعني ألا تكتفي فقط بتقديم خدمات تعليمية للمجتمع بعلاقة تبادلية اقتصادية، بل أن تكون ذات قيمة اجتماعية يرى فيها أفراد المجتمع أنها تلبي احتياجاتهم وتعكس قيمهم في برامجها الأكاديمية وقياداتها الإدارية. على سبيل المثال، ما الذي يجعل جامعات هارفارد وييل وستانفورد ذات شعبية عالية وتحصل على الدعم من جميع أرجاء العالم هو الارتباط الحميمي الذي أساسه القيم التي تتبناها ليست فقط المعايير الأكاديمية العالية ولكن القيم السياسية الديمقراطية التي تتفق مع توجهات داعميها. وهذه المؤسسية ليست حكرا على تلك الجامعات الأمريكية العريقة وإنما هناك أيضا جامعات أخرى استطاعت أن توجد شبكة قوية من العلاقات في مجتمعها جعلتها تحقق مستوى عاليا من المؤسسية. فعلى المستوى الوطني تبرز جامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن. فالأولى لا تكاد تخلو جامعة أو وزارة من خريجيها، أما الثانية فارتباطها بشركة أرامكو السعودية وتركيزها على التخصصات الهندسية ووجود مجلس أعضاؤه من جامعات مرموقة ومن النافذين في الصناعة منحتها مكانة عالية في المجتمع. ومع ذلك ما زال هناك مساحة للتطوير لتبلغ مرحلة النضج المؤسسي. والسبيل هو بإدارتها من خلال مجلس للأمناء يتكون أعضاؤه من النافذين والمؤثرين في المجتمع. الفكرة هنا هي توثيق العلاقة بالمجتمع حيث تكون هناك مواءمة بين مخرجات الجامعة من المؤهلين والأبحاث الميدانية ومتطلبات سوق العمل، بل من جهة أخرى مواءمة سوق العمل لمخرجاتها، إذ يقع على عاتق الجامعات توجيه الاقتصاد الوطني ولعب دور ريادي في التنمية الوطنية.
وفي واقع الأمر فإن معظم الجامعات الحكومية تدار بطريقة بيروقراطية محضة ترتكز فيها الجهود على تطبيق الإجراءات البيروقراطية بأعمال شكلية بحتة تجعل المسؤولين بمنأى عن المساءلة والمحاسبة. وقد يكون من بين أحد الأسباب المهمة لاختزال معظم المسؤولين في الجامعات اهتمامهم بالأعمال الروتينية هو أن تقويم الأداء يعتمد على معيار الكفاءة وليس الفاعلية وحساب التأثير النهائي لقراراتهم وجودته وربطه بالتنمية الوطنية. وإذا لم تكن الجودة والتأثير النهائي شرطا في التقييم فإن ذلك مدعاة لتوجه الجامعات إلى توسيع القبول على حساب معايير الجودة الأكاديمية. إن اعتماد القرارات في كثير من الأحيان على الجوانب الشخصية وتحقيق رضا الأفراد على حساب المصلحة العامة أمر تجب ملاحظته والتصدي له لأنه يعطل جهود التنمية الوطنية، بل الأدهى والأمر يمنح شعورا وهميا بالإنجاز ويغري بالاستمرار على النهج ذاته وتعزيز السلوك التنظيمي ذاته والتمادي فيه.
لقد حان الوقت لمناقشة القضايا العامة وعلى رأسها دور الجامعات في المجتمع بأكثر شفافية وجرأة وجدية وصراحة وإعادة النظر بما يتوقع من الجامعات والدور الذي عليها القيام به ومن ثم تحديد معايير ومؤشرات الأداء. ويقع على عاتق القيادات في الجامعات كعناصر للتغيير مهمة التحول في الجامعات للعمل المؤسسي وتحقيق معايير عالية للجودة وربط نشاطاتها التدريسية والبحثية باحتياجات المجتمع. لم يعد مجديا أن تنكفئ الجامعات على ذاتها وتعمل بعيدا عن المجتمع المحلي، في ظل الظروف والتحديات التي يواجهها الوطن. إن المسؤولية كبيرة وعلى الجامعات مضاعفة جهودها في تقديم حلول جديدة سواء على صعيد البحوث الاستشرافية للمستقبل أو توجيه الرأي العام أو المساهمة في تطوير قطاع الصناعة ونقل المجتمع لمستويات أعلى من التحضر، وهذا ما لا يستطيعه التفكير البيروقراطي! ولا شك نحن بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى بناء الجامعات مؤسسيا لا بيروقراطيا!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي