سقوط جدار برلين الآسيوي

يأتي هذا المقال متأخرا بعض الشيء، لكن ذلك ليس مهما بقدر أهمية الحدث الذي يتناوله، الذي كان مسرحه منطقة جنوب آسيا. فقد تم في بدايات الشهر الجاري التوقيع على ما وصف بـ"الاتفاق الحدودي التاريخي بين الهند وبنجلادش" خلال زيارة رئيس الحكومة الهندية "ناريندرا مودي" لدكا بدعوة من نظيرته الشيخة "حسينة واجد".
والحقيقة أنه ما من أحد يدرك مدى أهمية هذا الاتفاق للملايين من سكان البلدين الجارين ولملف الأمن والسلام في جنوب آسيا سوى الدارسين لشؤون شبه القارة الهندية، والمتابعين للمشكلات التي عادة ما تعانيها الشعوب جراء إهمال مسائل مثل تقسيم مصادر المياه، وترسيم الجرف القاري، وتخطيط الحدود بما فيه وضع ترتيبات واضحة لعملية انتقال الأفراد والبضائع عبرها. ويتيح الاتفاق المذكور لنحو 50 ألف شخص من المقيمين في 165 جيبا فقيرا على الحدود الفاصلة بين البلدين اختيار الجنسية الهندية أو البنجلادشية بعد أن حرموا من الهوية الوطنية على مدى عقود، كما يتيح الاتفاق تبادل البلدين هذه الجيوب التي رسم حدودها قادة محليون منذ قرون مضت بحيث تتسلم بنجلادش 111 جيبا وتتسلم الهند 55 جيبا. وشمل الاتفاق تخطيط الحدود المشتركة بطول 4 آلاف كلم، وتسيير خطوط حافلات تربط دكا بأربع مدن في شرق الهند، وتعزيز حركة التجارة ونقل الأفراد والبضائع، واستثمار الهنود لنحو 5 مليارات دولار في قطاع الكهرباء في بنجلادش، ومنح نيودلهي دكا قرضا بنحو ملياري دولار.
والمعروف أنه لولا الوقفة الهندية الحاسمة في عام 1971 إلى جانب الشعب البنجالي فيما كان يعرف سابقا بباكستان الشرقية لتحقيق طموحاته في إقامة كيانه المستقل، والتخلص من التمييز العرقي الذي كان يتعرض له على أيدي الحكومات الباكستانية المتعاقبة، لما قامت دولة بنجلادش أصلا. والمعروف أيضا أن رئيس الحكومة الهندية وقتذاك السيدة أنديرا غاندي بررت تدخلها في حرب البنجال بما كانت تتعرض له بلادها في تلك الفترة من نزوح جماعي لبنجاليي باكستان الشرقية إلى ولاية البنجال الغربية الهندية هربا من بطش جنرالات الجيش الباكستاني الموثق دوليا، وإن فسر المراقبون تدخلها بالعمل الذي عادة ما تقدم عليه أي دولة حينما تجد فرصة مواتية للانتقام من خصمها.
غير أنه على الرغم من ذلك الدور الهندي في قيام بنجلادش، فإن الحكومات البنجلادشية التي تعاقبت على السلطة في دكا لم تحفظ للهند جميلها، ربما باستثناء الحكومة الأولى التي تزعمها الزعيم المؤسس الشيخ مجيب الرحمن.
صحيح أن التبادل التجاري الثنائي بين البلدين شهد تطورا منذ التسعينيات بعد تبني كليهما سياسة اقتصاد السوق بحيث صارا أكبر شريكين تجاريين في آسيا (أكثر من 7 مليارات دولار سنويا بصورة تقديرية)، وصحيح أنهما وقعا اتفاقا لتقسيم مياه نهر الجانج في عام 1966، وصحيح أيضا أنهما شريكان قويان في محاربة الإرهاب، إلا أن المتابع لا يمكنه القول إن العلاقات الهندية البنجلادشية تتميز بالدفء المفترض. بل الحقيقة هي أنها راحت تتأرجح ما بين صعود وهبوط بحسب توجهات وسياسات الأحزاب الحاكمة في البلدين، وما تفرضه العوامل الداخلية عليها من ضغوط. فمثلا كان هناك دوما ضغط من الشارع البنجلادشي المعادي للهند لأسباب عقدية يبدو أنه ورثها من زمن تقسيم الهند البريطانية على أساس ديني (يذكر أن رئيس الحكومة الهندية السابق مانموهان سينج قد صرح ذات مرة بأن نحو ربع سكان بنجلادش على الأقل يعادون الهند).
على أن أحد أهم أسباب الجمود الذي خيّم على علاقات البلدين ومنعهما من التعاون الثنائي المفيد لكليهما هو وجود حزمة من الملفات الشائكة بينهما، وهي الملفات التي حاول الاتفاق الأخير ملامسة معظمها، مثل مشكلات الجيوب المشار إليها آنفا، والهجرة غير الشرعية لمواطنيهما عبر الحدود، وتسلل الشبكات الإرهابية (مثل شبكتي "بانجا سينا" و"حركة الجهاد الإسلامي" وغيرهما) من بنجلادش إلى الهند أو العكس، وبروز واستفحال ظواهر خطيرة على جانبي الحدود مثل الرقيق الأبيض وتهريب المخدرات والعملات الصعبة والاتجار بالأطفال، وهي الظواهر التي دفعت قوات حرس الحدود الهندية إلى اتباع سياسات ردع تقوم على إطلاق النار دون إنذار، الأمر الذي تسبب في مقتل نحو ألف مواطن بنجلادشي ما بين عامي 2001 و2011 طبقا لتقارير حقوق الإنسان الغربية.
ويبقى أن نقول، إن هذا الاتفاق التاريخي الذي وصفه "مودي" وهو يغادر دكا بـ"سقوط جدار برلين الآسيوي" جاء ناقصا لأنه لم يتطرق إلى مشكلتين أولاهما ادعاء كلا البلدين السيادة على المياه الإقليمية نفسها في خليج البنجال، وثانيتهما السدود التي بنتها الهند على نهر الجانج المشترك، التي تحتج دكا بأنها تحد من حصولها على حصة مناسبة من مياه النهر في مواسم الجفاف، وتتسبب في تعرضها للفيضانات أثناء مواسم الأمطار الموسمية الغزيرة حينما تفتح الهند السدود للتخلص من فائض المياه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي