جبل جليدي في نجد

في هذا المقال سنتحدث عن السبب الثاني من أسباب مشكلات المياه عالميا وهو التوزيع غير المتناسق لمصادر المياه مع أماكن الطلب العالية (ذات الكثافة السكانية والزراعية والصناعية المرتفعة).
دول العالم تقسم إلى دول غنية مائيا – كأمريكا وإندونيسيا والدول الإسكندنافية- وأخرى ميسورة الحال – كفرنسا وتايلند وأنجولا- وأخرى معوزة أو فقيرة جدا – كالمملكة ودول الخليج والشمال الإفريقي. ففي هذه الدول الفقيرة مائيا، تبلغ نسبة الفرد الواحد من مصادر المياه العذبة (المتجددة) أقل من 2.7 متر مكعب يوميا. بالمقارنة، تبلغ نسبة الفرد من ذات المياه في دولة غنية مائيا كالبرازيل أكثر من 30 مترا مكعبا يوميا. هذا الخلل يتضح جليا عندما نعرف أن نصف كميات المياه العذبة على سطح الأرض توجد في ست دول فقط (كندا، روسيا، البرازيل، إندونيسيا، الصين وكولومبيا)، بل إن دولة كروسيا تحوي بحيرة بيكال – الأكبر في العالم من حيث كمية الماء فيها – التي تحتضن خمس المياه العذبة السطحية في العالم.
هذه النظرة السريعة توضح الخلل في توزيع مصادر المياه العذبة وأنها غير متناسبة طرديا مع بؤر الطلب. بل وحتى في بلد غني – جدا- مائيا كالبرازيل يمكن أن نرى ذات المشكلة، فمنطقة الأمازون الخالية تقريبا من السكان تستحوذ على نسبة 75 في المائة من مياه البرازيل في حين تمتلك مناطق الشمال الشرقي – المكتظة سكانيا- أقل من 2 في المائة من مصادر المياه العذبة. وتتكرر الصورة ذاتها في بلدان أخرى كثيرة كالهند وأمريكا حيث يعد البلد غنيا أو مكتفيا مائيا ككل في حين تعاني أجزاء منه من شح مائي رهيب. فإن كان الوضع كذلك فما الحل؟ يبدو وللوهلة الأولى أننا أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نرتحل – بمدننا وسكاننا- إلى مصادر المياه أو أن نأتي بها إلينا. في السابق، كانت القبائل، بل وحتى الحضارات القديمة تستوطن بالقرب من – وأحيانا تنتقل بحثا عن- مصادر المياه وحين تفشل في ذلك يكون هذا إيذانا بنهايتها كما (يعتقد بحدوثه) مع حضارات المايا في أمريكا الوسطى والإندوس في الهند وأواسط آسيا والأناسازي في أمريكا الشمالية. ومع التطور التكنولوجي وصعوبة انتقال المدن حاليا، تم تجربة الحل الآخر وهو جلب مصادر الماء من أماكن عديدة في العالم – وبصور متباينة- لكنّ التجربتين التاليتين تكادان أن تكونا الأبرز –والأغرب- في التاريخ الحديث.
التجربة الأولى، هي المحاولة الجريئة جدا لرجل أعمال سعودي بجلب جبل جليدي إلى السعودية. الفكرة بدت منطقية، فثلاثة أرباع المياه العذبة في العالم محتجزة في الجبال الجليدية. ثم إن تلك الجبال لا تخضع لسيادة أي دولة. هذه الفكرة التي ظهرت في العام 1976 كانت تقتضي (جر) جبل جليدي بعرض 1.5 كم ووزن يفوق 100 مليون طن تقريبا مسافة 5000 ميل (من القطب الجنوبي). التحدي الأكبر – الذي أسهم في فشل المشروع لاحقا- كان إيجاد طريقة لمنع ذوبان الجليد خلال الرحلة التي تستغرق قرابة السنة بسبب أشعة الشمس – خاصة في المناطق المدارية والاستوائية- وبسبب تلاطم الأمواج مع الجبل يبدو أن الشغف – بل ربما الهوس- العالمي بمياه القطبين لم ينته بعد. فحديثا أعلن العلماء الروس عن نجاح استكشافاتهم العلمية – التي استغرقت أكثر من عشرين سنة- في الوصول إلى بحيرة فوستوك في القطب الجنوبي. البحيرة التي يبلغ طولها 250 كم وعرضها 50 كم وتقع على عمق 4 كم هي الأكبر بين بحيرات القطب الجنوبي المعروفة والبالغ عددها قرابة الأربعمائة. بخلاف ما يتوقعه القارئ، فمياه البحيرة هي في الحالة السائلة وذلك لعمقها – درجة الحرارة تزيد كلما اقتربنا من باطن الأرض- على الرغم من درجة حرارة السطح والبالغة 50 درجة تحت الصفر على مقياس سيلسيوس! الاهتمام الروسي بل والعالمي بها الفتح العلمي ليس له علاقة بكمية المياه هناك وإمكانية جلبها هذه المرة، بل هو بنوعية المياه ونوعية الحياة المائية في ذلك المصدر الذي لم يمس منذ 20 مليون سنة!.
التجربة الثانية، هي التجربة الليبية المكلفة جدا والمثيرة للجدل والمسماة بالنهر العظيم. ففي عام 1953 وبينما كان الجيولوجيون ينقبون عن النفط في الصحراء الليبية عثروا وبالصدفة على مخزون جوفي للمياه- تبين لاحقا أنه المخزون الأكبر في العالم. هذه المياه التي وجدوها في التكوين النوبي يعود عمرها إلى أكثر من 40.000 سنة – أي أنها تكونت خلال العصر الجليدي. قررت الحكومة الليبية ضخ تلك المياه إلى جميع أجزاء ليبيا التي تعاني شحا كبيرا في المياه في مشروع سمي بالنهر العظيم وقدرت تكلفته بأكثر من 32 بليون دولار. تم وضع الخطط لشبكة أنابيب ضخمة تمتد لأكثر من 4.000 كم وبدأ ضخ الماء فعلا بعد إتمام المرحلة الأولى عام 1991 بعد ست سنوات من العمل. الغريب في الأمر أن الجهات العالمية تقدر عمر هذا المشروع- أي عدد السنين قبل أن ينفد المخزون المائي- بعشرين أو ثلاثين سنة –أعلى التقديرات تشير إلى 60 سنة. في حين تصر الجهات الرسمية الليبية بأنه سوف يدوم لأكثر من 4625 سنة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي