عقلنا .. وقول لم يتم

تحرير المصطلح وتحديده وتعريفه مهمة صعبة يدخل في اعتبارها مجاله ورؤية وأيديولوجية وثقافة من يعمد إلى تقديم المصطلح والكتابة فيه أو الحديث عنه.
وعقلنا.. سواء قيل العقل العربي أو العقل الإسلامي وجد عدد من المفكرين العرب يبحثون عنه ويتناولونه من زوايا مختلفة ويضعون له محددات وتعريفات مختلفة.. وقد جرى هذا البحث عنه فقط مع صدمة الحداثة الغربية، سواء في تكوينه أو نقده أو غيبوبته أو غيبته أو عودته إما عبر رحلة في التراث أو عبر مجريات الحراك الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي الحديث.
في بواكير عصر النهضة وفي أدبيات روادها مثل: الأفغاني شكيب أرسلان، محمد عبده، الطهطاوي، وخير الدين التونسي.. ما كان "العقل" يمثل إشكالية بارزة آنذاك في أدبياتهم فقد كان الهاجس المهيمن يدور حول البحث عن الهوية وترميم صورة الأمة بحركية الاجتهاد والتجديد والإحياء.
غير أن الفترة التي أعقبت حملة نابليون على مصر ومجيء المستعمر واحتلاله للحواضر العربية جلبت صدمة الحداثة بجانبيها العسكري والفكري، مقدمة سوأتها في غطرسة القوة ونهب ثروات ومقدرات الشعوب وفاتحة في الوقت نفسه الأعين على محتواها المعرفي ومناهجها وأدواتها التقنية التي لم تكن معهودة من قبل على الإطلاق.. فقد كانت حركة التاريخ عند العرب محكومة بمسلمات فإذا هم يكتشفون أن الديناميكية والنسبية قد ضربت كل ما كان مستقرا، وأن من فعل ذلك هو "العقل" الذي أنتج الحداثة وأقامته الحداثة بنفسها مسؤولا عنها وعن منجزاتها لضبط إيقاعها وحمايتها من العشوائية والفوضى وتأمين تدافعها إلى الأمام.. فإذا العمل ووسائل الإنتاج وكل نشاط إنساني في كل مجال يخضع لمقاييس عقلية كمية وطولية وحركية موقوتة بالثانية وأقل!
لقد كانت صدمة الحداثة من القوة إلى درجة الإحساس الرهيب بعدم الفهم ثم بالاغتراب، وبالتالي العجز عن قبولها كامتياز غربي دفع إلى البحث لها عن جذور عربية وإسلامية عبر التثاقف الأوروبي مع موروث العرب الحضاري الذي خلفوه إبان العصر الذهبي لهم.. حتى إن الدكتور حسن حنفي يعتبر أن العرب بدأوا حداثتهم، قبل الغرب، مع "بيت الحكمة" في عصر المأمون وقبله والده هارون الرشيد حين تمت ترجمة كتب اليونان والرومان والفرس والهنود.
لا أتفق مع كون ما حدث من تثاقف للأوروبيين مع ميراث العرب أو غيرهم أو أن ما ترجمه العرب من ميراث الأمم الأخرى يمثل حداثة لا في حينه بالنسبة للعرب ولا في حداثة الغرب حتى وإن كان تراث العرب وغيرهم قد لعب دورا جوهريا في نهضة أوروبا وأسهم في خروجها من قرونها الوسطى.. لكن تبقى أهمية هذا التحفظ لكي يؤكد على أن هذه الحداثة الغربية التي صدمت العرب لم تزل حتى اليوم معاقة على جميع الأصعدة، وقد قيل في تعليل ذلك الكثير من الأسباب: في مؤلفات ومقالات ومؤتمرات لعل أشهرها الندوة التي عقدت في الكويت في عام 1974 بعنوان "أزمة الحضارة العربية".
ومع أهمية تلك الندوة وما قيل فيها وعنها، فلست بصدد إعادة الحديث عن تلك الأسباب، لكني أريد أن أضيف إليها سببا بات يروج في الحياة الثقافية العربية ويتم التنظير له وتبنيه، ربما لأنه يوفر عذرا لا شعوريا أو عزاء عن العجز عن إنتاج الحداثة ويوفر مهربا منها.. وهو سبب اصطلاحي شكلاني يتلخص فيما يعرف بـ "ما بعد الحداثة" الذي يتخذ من الغرائبيات والفنتازيا المنفلتة والتشرذم حجة ونزعة للتحرر من "عقل" الحداثة وإنتاجيته إلى ما يشبه هلوسات عبد الله القصيبي في "العالم ليس عقلا" أو "أيها العقل من رآك؟" حيث الهذر واللامعنى.
أجل.. يوفر مصطلح ما بعد الحداثة عذرا لا شعوريا أو عزاء للتحلل من منجزات الحداثة ومن منطلقها وشروطها حتى في عالمها السريالي.. أي أن الحداثة بمساوئها تظل دون أدنى شك هي صاحبة الفضل في التقدم والرقي الذي بلغه الإنسان اليوم.. فقد كان العقل مصدرها والحاكم لها أيضا.. ولا يعدو مصطلح ما بعد الحداثة غير محاولة لفظية أو اسمية وشكلانية لا تقطع السياق وإنما تواصل في المسار حيث جميع ما يستجد ما هو إلا نتاج الحداثة فحسب.. ولعل "هايبرماس" حين قال "الحداثة قول لم يتم" كان يعني ذلك تماما.. فلا بعد وإنما حداثة مستمرة.. وعجزنا عن إنجازها لن يستر عريه التشدق بأن العالم قد تجاوزها.. وليبقى هذا العري أزمة عقلنا العربي حقا!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي