من العمالة إلى التكفير
إن المتأمل لحركة التاريخ العربي في الفترة التي أعقبت رحيل المستعمر في أوائل خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، سيسترعي انتباهه التحول الحاد في خطاب الفكر العربي شكلا ومضمونا، وانتقاله من السياسي إلى الديني.
هذا التحول يمكن رصده وقراءته في ضوء علاقة كل من الخطابين مع الأيديولوجية التي ارتكز عليها، والأهداف التي سعى إليها، وبالتالي المفردات والعبارات التي شكلت القاموس اللغوي الذي عبر به عنها، واستثمره في إدارة الصراع على المستويين النظري والعملي.. وهي مفردات وعبارات تختلف في مجملها لفظا ومعنى بين الخطابين، منها على سبيل المثال: العروبة مقابل الإسلام، والنضال مقابل الجهاد، والاشتراكية مقابل التكافل، والوحدة مقابل التضامن، والوعي مقابل التوعية، والطليعة مقابل الأخيار، والقطر أو الأقطار مقابل الثغر أو الثغور، والتقدمية مقابل السلفية، والتخلف مقابل الجاهلية، والرفاق مقابل الأخوة، والزعيم مقابل الشيخ .. إلخ.
لقد هيمنت على الخطاب السياسي الأيديولوجيات الوضعية، سواء القومية أو اليسارية، وكان السجال بينها حادا انفعاليا على مستوى التنظير، وعنيفا دمويا على مستوى الممارسة، فقد كان الصراع على السلطة بالانقلابات العسكرية سمة بارزة، كما كانت الصدامات والإعدامات والاغتيالات والاعتقالات والمطاردات وثقل وطأة المخابرات والأجهزة الأمنية قواسم مشتركة بين أهل القومية وأهل اليسار؛ بذريعة تحقيق العدالة، مصالح الشعوب، نصرة الكادحين، العمال، الفلاحين، الحرية، الديمقراطية، الاشتراكية، الوحدة العربية، وغيرها من شعارات تعالت تحت ما عرف بحركة التحرر العربية، ومزاعم محاربة الاستعمار والإمبريالية والرجعية.
أدت تلك الشعارات إلى إقصاء الآراء والأفكار والمعتقدات المخالفة على الصعيد الشعبي، وإلى إعاقة التنمية وفشل مشروعها على الصعيد الوطني، فقد كان ينظر إلى القطاع الخاص على أنه برجوازية ذميمة واحتكار مرذول، وإلى الانفتاح على الاقتصاد العالمي والاستثمارات الأجنبية باعتبارها نهبا للثروات الوطنية واستغلالا للشعوب، وبالتالي فقد كان يتهم بالعمالة كل من لم يكن منصاعا لما يريده هذا الحزب، أو ما يخطب فيه ذاك الزعيم، أو تردده تلك المكينة الإعلامية.. وكم كانت كلمة "عميل" تملأ أدبيات تلك المرحلة، ولا تكاد تفارق أجهزة إعلامها ولا خطب وتصريحات ساستها.. حتى إنه لم يكد ينجو مفكر أو مبدع أو مؤسسة ممن لم ترضَ عنها الأنظمة القومية واليسارية إلا ووصمت بالعمالة للغرب أو للرجعية أو لكليهما معا.
كذلك شارك في هذا النزوع للاتهام بالعمالة قادة المنظمات والفصائل الفلسطينية أنفسهم، واستعصموا بها ضد جميع الأشخاص والدول والمؤسسات التي لا تتفق معهم في موقف أو رؤية مهما كان حجم الاختلاف.. وبلغ الأمر حدا لم يوفر فيه حتى أولئك الزعماء الفلسطينيون اتهام بعضهم بعضا، على نحو نزق مقزز، بل دموي بشع أحيانا.
ومع منتصف سبعينيات القرن الماضي، وعلى أثر تداعيات هزيمة 67، أخذت "الصحوة" تستشري في عالمنا العربي، وكان ذلك بسبب عمق الفشل على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. وبشكل محدد الفشل في بناء المواطنة الحقة وصناعة التنمية، غير أن هذا حديث آخر.. وما يهمنا هنا، هو أن "الصحوة" مارست على مدى ثلاثة عقود شطبا شرسا حادا لذلك الخطاب السياسي، وسارت في اتجاه معاكس له، وحوَّلته إلى خطاب ديني صاخب صارم، لا مساحة فيه للسياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإعلامي إلا من خلال منظور الأيديولوجيا الدينية وحسب. وقد بدأ الخطاب الصحوي مسيرته بشيء من التجمل والممالاة بين الجماعات والفرق الإسلامية، ثم التنافس في شحن هذا الخطاب بمقولات وخطب وكتيبات وكاسيتات وعظية وإحالات مناقبية، تعلي من شأن الإسلام والمسلمين على نحو تجريدي، يخلع صفات مثالية ملائكية، ويتحدث عن تاريخ متخيل خلاب بإنسانية ناصعة لا مثيل لها كما لو لم تنزل قط قطرة دم واحدة فيه.. رغم كونه بدأ باغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وسبحت عصوره المتلاحقة من الأمويين، فالعباسيين، فالفاطميين، وحتى العثمانيين فوق بحار من الدم.
غير أن هذا التنافس في شحن الخطاب الديني سرعان ما أخذ يتنوع ويتفرع من قبل أقطاب الصحوة أنفسهم، فقد أخذ الباعث السياسي المسكوت عنه يملي على الصحويين ضرورة الانحياز إلى هذا المسكوت عنه، والتعبير عنه شيئا فشيئا، فإذا الصحوة تتمايز إلى جماعات وفرق وتنظيمات.. وباسم الاختلافات في التعبير عن الرأي الديني القويم والموقف الفقهي الصحيح وشرعية الفتاوى، تصاعدت- تحت صيحات الإسلام هو الحل- لغة الحوار، وتوتر السجال بين هذه الجماعات، بل جنح إلى الحدة والغلظة في القول، واللجوء إلى حجة حاكمة خطيرة تقطع الطريق على الرأي المخالف.. وكانت تهمة "التكفير" هي تلك الحجة الحاكمة الخطيرة التي وجدت فيها جماعات الصحوة وفرقها بغيتها؛ لإخماد صوت من تريد إخماد صوته من جماعات الصحوة الأخرى أو سواهم.. وهكذا.. غابت وتلاشت تهمة العمالة وحلت محلها تهمة التكفير.. حتى إنه ليمكننا القول إن تهمتي العمالة والتكفير اقتسمتا الزمن العربي المعاصر بواقع ثلاثة عقود لكل منهما.
وإذا كانت تهمة العمالة تعني الخيانة، وهذا وصف شنيع يجرد المواطن من وطنيته، ويطرده عن وطنه، فإن تهمة "التكفير" تتجاوز الخيانة إلى ما هو أشنع؛ لأنها تتجرأ في إطلاق حكم على ما لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه، وهو "النية" وما في القلب، فتخرجه من الملة لمجرد رؤية مختلفة في تفسير نص ديني أو تخريج حديث أو موقف فقهي لم يتفق مع هوى هذا الذي يقوم بالتكفير. هذا يعني أن العقل العربي في حالة الخطاب السياسي انتهى إلى "طرد نفسه" من الوطن، من خلال تهمة العمالة، ثم انتهى إلى "إهلاك نفسه" من خلال تهمة التكفير، فالصحويون يطلقون على الخارج عن الملة صفة "هالك".
وإنه لأمر فظيع أن يقاد عقلنا على جسر يمتد من العمالة إلى التكفير، ليكون المصير في الأولى الطرد من الوطن بنزع الوطنية عن المواطن، وفي الثانية طرد المواطن من الحياة بإزهاق روحه.. وهذا إن كان مدعاة للحسرة والأسف، فإنه حقا مدعاة للتساؤل! ليس لماذا؟ وإنما إلى متى؟!