التدوير أم التطوير العقاري؟

حينما تختلط الحقيقة بالزيف في موضوع ما، فإنك ولا شك ستصل إلى تشخيص غير دقيق، ومن ثم إلى اتخاذ قرارات قد تأتي نتائجها على العكس تماما مما كنت تستهدفه وتأمله! ولكن ماذا سيكون عليه وضع تشخيصك وقراراتك والنتائج، إذا ما اكتشفت أن نحو 93.0 في المائة من مكونات موضوعك هو الزيف بعينه؟ وأن الحقيقة التي تريد الدفاع عنها، والاستناد إليها لا تشكل أكثر من 7.0 في المائة من حيثيات هذه القضية أو الموضوع؟ الإجابة هنا ستكون واضحة وجلية ولا تحتاج إلى أي إيضاحات أكبر.
تلك هي قضيتنا فيما يختص بالسوق العقارية المحلية، فالخلط المتعمد بين (تدوير) الأموال والثروات في أحشائها من جهة، ومن جهة أخرى (تطوير) منتجات عقارية على مختلف أنواعها، وإغفال الهوة الشاسعة بين كلّ من التدوير والتطوير، أفضى إلى تشخيص حالة للسوق العقارية بالغة التشويه، أنتجت لاحقا قرارات وإجراءات كان من أقل آثارها المدمرة؛ أنها فاقمت عبر السنوات التالية من حجم المشكلة أو قلْ الأزمة بمعنى أكثر دقة وموثوقية، بل وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة، أن ترتفع أصوات الدفاع إن عن جهل أو علم (لا أحد يعلم بالنيات) عن سيطرة تدوير الأموال والثروات في السوق العقارية، التي لا توجد لها أية قيمة مضافة على الاقتصاد ولا المجتمع إلا على الحسابات البنكية لأصحاب تلك الأموال، لتخلف وراءها انتشارا أوسع نطاقا للأزمة العقارية والإسكانية في البلاد، ولتخلف وراءها موجات كاسحة من التضخم وغلاء الأسعار، ولتخلف وراءها فجوات سوداء لخطوات التنمية الشاملة والمستدامة على حد سواء، ولتخلف وراءها ويلات اقتصادية واجتماعية على الأفراد والأسر، جرتها إلى التورط في القروض الطائلة، وإلى التفكك الأسري، وإلى تردي الحالة المعيشية دون وجه حق.
وصل إجمالي قيمة صفقات السوق العقارية لعام 2013 إلى نحو 419.0 مليار ريال (نحو 15.1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، ويقدر أن ترتفع بنهاية العام الجاري إلى أعلى من 447.4 مليار ريال (نحو 15.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي). هذا هو الموضوع أو القضية دون الخوض في التفاصيل، ودون التفرقة بين مبيعات ما هو مجرد (تراب) وبين ما هو (منتج مطور) على سطح تلك الأرض! فماذا تكشف عنه تلك التفاصيل؟
إنها تبين فيما يختص بعام 2013، أن حجم الصفقات على مبيعات التراب فقط، وصل إلى نحو 388.6 مليار ريال (نحو 92.7 في المائة من إجمالي قيمة الصفقات للعام بأكمله)، وبالنسبة لعام 2014 يقدر أن يرتفع إلى نحو 416.1 مليار ريال (نحو 93.0 في المائة من إجمالي قيمة الصفقات). بهذا يتضح لدينا أن الأموال التي تركزت أو تم تدويرها بصورة محمومة في أحشاء الصفقات للسوق العقارية، كانت هي الأعلى كعبا، والأكثر سيطرة.
فماذا عن حجم الأموال التي قامت بشراء المنتجات العقارية (التطوير العقاري) على مختلف أنواعها (بيت، شقة، عمارة، فيلا، مرفق، مركز تجاري، معرض / محل)؟ ذات البيانات الصادرة عن وزارة العدل، تبين أنها لم تتجاوز في عام 2013 سقف 30.4 مليار ريال (نحو 7.3 في المائة من إجمالي قيمة الصفقات، ونحو 1.1 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي)، ويقدر أن تبلغ بنهاية العام الجاري نحو 31.3 مليار ريال (نحو 7.0 في المائة من إجمالي قيمة الصفقات، ونحو 1.1 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي). هل ترى الآن حجم المفارقة الكبير جدا بين زيف التدوير من جهة، ومن جهة أخرى حقيقة التطوير المغلوبة على أمرها؟
بل إن الأمر على ما يحمله من خطورة بالغة، لا ولم يقف عند هذا الحد! فما نتجت عنه عمليات تدوير الأموال بصورة تفوق الوصف في خانة (التدوير العقاري)، وأهمها هنا مسألة تضخم الأسعار وارتفاعها إلى مستويات غير مسبوقة، خرجت حتى عن سيطرة السياسات الاقتصادية، انتقل جزء منها لا يستهان به إلى تضخيم أسعار (المنتجات المطورة)، فلا تجد بلدا في العالم بأسره تشكل فيه نسبة تكلفة الأرض إلى إجمالي تكلفة المسكن نحو 75.0 في المائة، وأحيانا قد تصل إلى 80.0 في المائة! وماذا بعد؟ الإجابة أن جحيم ارتفاع الأسعار والتضخم، وحينما لم يجد ما يردع تفاقمه واتساع رقعته، وجدته قد دخل دوامة متصاعدة إلى الأعلى عبر رفع الأسعار، فما كان قبل أعوام لا تتعدى قيمته 500 ألف ريال، تجد أن سعره السوقي بأرقام اليوم يبلغ 1.5 مليون ريال، وبالمنطق المعوج نفسه يجب أن نقبل جميعا راغمين أن يصل العام التالي إلى 2.0 مليون ريال، وأن نقبل أيضا دون أدنى نقاش وصوله إلى 5.0 ملايين بعد ثلاثة أو أربعة أعوام، وهكذا دواليك حتى وإن وصلت قيمة ذات المسكن دون أي تغيير فيه إلى 10.0 أو 15.0 مليون ريال! هذا هو الطريق الذي يراد أن نمضي فيه دون نقاش أو جدال، وتلك هي النتائج المدمرة التي يراد بنا أن نصل إليها. حينما تتم المطالبة بإيقاف هذه الدوامة السرطانية الفتاكة، التي لم ولن يوقفها إن مضت هكذا دون قيد أو شرط أو سيطرة إلا هلاك البلاد والعباد وكل مقدرات الاقتصاد الوطني! لقد تحولت أو قل انحرفت تماما مسارات السوق العقارية عما هو مأمول منها، وعن الأهداف التي لأجلها شرعتها الأنظمة واللوائح لدينا على الرغم من ندرتها في الوقت الراهن، بل لقد أصبحت تلك الانحرافات والتشوهات هي صاحبة النفوذ والسيطرة، إلى درجة جرأتها حتى على رفض أو قبول أي أنظمة جديدة! ووصلت بها الحال من القوة والجرأة أن أصبحت تملي علينا جميعا (أجهزة حكومية، أفرادا، مؤسسات) ما يجب فعله وما لا يجب فعله، وأن تأمر بفعل هذا وتنهى عن فعل ذلك. ثم يراد بعد كل هذا أن نحلم مجرد حلم صغير جدا أن تنفرج الأزمة العقارية والإسكانية، بمواجهة واقع كهذا الواقع؛ لا مفر من القول هيهات ثم هيهات أن تنال من تلك الأمنيات حتى واحدا في المليار منها.
لهذا تأتي الاقتراحات والمطالبات بضرورة تفجير تلك الفقاعة السعرية الخطيرة (التدوير العقاري)، التي لم يجن منها أحد خيرا إلا أرباب تلك الفقاعة، وكشف الزيف عن وجهها الحقيقي، والكذبة الكبرى أن انفجارها وانهيار أسعارها سيؤديان إلى إلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني! رغم أنها الآن تقوم بهذا الدور عن جدارة واستحقاق. والتأكيد على أن انفجارها هو باب الخلاص المؤكد للاقتصاد الوطني والمجتمع ومقدراتهما على حد سواء، وأن الآمال معقودة على واضعي السياسات الاقتصادية بعد الله - عز وجل؛ أن يتم تحويل مسار تلك الأموال الهائلة من ورطة (التدوير) إلى الفسحة المشروعة بالتطوير، وتصبح السوق العقارية في مسار يعزز الاستقرار الاقتصادي، لا أن ينهش خيراته كما هو قائم الآن بكل أسف. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي