تحولات المجتمع السعودي
خاض المجتمع السعودي طوال 45 عاما مضت مسارات من التحولات الحضارية العميقة جدا، أسهم في الدفع بقواها عديد من العوامل المختلفة، التي كانت نتاج التغيرات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، يمكن القول في معمعة البحث في صلب تلك العوامل، أن النفط والثروات التي أتت على سطح براميله، كان سيد المؤثرات وما زال حتى يومنا هذا هو الباعث الأهم لأية عوامل أو تطورات تجري على السطح، وما تراه من عوامل أخرى؛ فإن أغلبه مشتق من النّفط، إما بالدرجة الأولى وإما الثانية أو حتى العاشرة، سواءً من تدفق الثروات وتوزيعها بين الأفراد، وتشكل الكيانات التجارية والصناعية في الاقتصاد، وما نتج عنها من صعود قوي ومؤثرٍ لبعض أطياف المجتمع على حساب أطياف أخرى، فرضت عبر الزمن اللاحق نفسها بقوة النفوذ المادي بالدرجة الأولى، وإن طغى على سطحه الظاهر اعتبارات أخرى قد تكون خادعة، إلا أن العامل المادي وإن كان غير بارز في بداية عهدها يظل هو العامل الأقوى تأثيرا، وهو ما أثبتته تموجات رحلة المجتمع السعودي في العقود التالية من الزمن في عمق تأثيرها، ووقوفها خلف تشكل الأنسجة الحضارية والتنظيمية حتى التنفيذية التي تحيط سيطرتها بأفراد المجتمع كافة.
هذا إضافة إلى ما اقتضته سرعة التحولات والتنمية والتطوير نتيجة التدفق السريع والضخم لثروة النفط المفاجئة في منتصف السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، أتت على مجتمعٍ قليل العدد (عدد سكان المملكة أقل من 6.2 مليون نسمة في 1974) ومتدني التعليم (نسبة الأمية أعلى من 93.0 في المائة)، كل هذا استدعى بدوره وقضاء لاحتياجاته الماسة استقدام عشرات الملايين من العمالة الوافدة (نحو عشر السكان في 1974، ارتفع في أقل من عقدٍ زمني لأكثر من 20.6 في المائة من عدد السكان)، والاعتبار هنا لما حملته تلك العمالة من ثقافاتٍ وقيم بإيجابها وسلبها من شعوبها، بل إن بعضها تم غرسه غرساً في الأجيال الناشئة من السعوديين والسعوديات في أروقة التربية والتعليم، بدءا من مراحل التعليم الأولى حتى نهاية التعليم العالي، عدا دور العمالة الوافدة بما تحمله من ثقافة ومخزون حضاري يمثل الوجهة التي أتت منها في الشأن الإعلامي والفكري والثقافي محليا. كل تلك المحددات والمؤثرات المشبعة بالكثير من المؤثرات العميقة الجذور، أسهمت دون أدنى شك عبر العقود الماضية الممتدة في تشكيل الوعي والفكر والثقافة والوجه الاجتماعي الذي نشهده اليوم.
اليوم أنت أمام وجه للمجتمع هو خلاصة نتائج وتفاعلات تلك العوامل السابقة طوال ما يقارب الخمسة عقود الماضية، لهذا أتيت على ذكرها في عجالة في مقدمة هذا المقال، الذي سيعقبه عدة مقالات قادمة، تتركز بالحديث على التحولات التي مر بها المجتمع السعودي، وكيف أنها أثرت وتأثرت ليتشكل مجتمعنا على وضعه الراهن، وحالة التعامل والمواقف التي وقف عليها تجاه مختلف الفرص والتحديات المعاصرة والسابقة طبعا، ومحاولة وضع تصورات للمستقبل القادم، الذي سيتركز على العشرة أعوامٍ القادمة، وقد يقتضي الأمر إلقاء بصيصٍ من النور على ما سيليها إذا تطلب الأمر ذلك فيما يخص عددا من المحاور.
يذكر عديد من غير السعوديين الذين عاشوا النصف الأول من عمر خطط التنمية، أثناء حديثهم عن تجربتهم في المملكة، أن العمالة الوافدة هي التي أنشأت الجزء الأكبر من البنى التحتية لدينا في بداية عهدها، وأن المواطن السعودي كان متأخرا عن هذه العملية، وهذا حديث دون الخوض في بعض مآربه صحيح إلى حد كبير، وأن سرعة التطور التي عاشها الاقتصاد السعودي، لم يتزامن معها تطورٍ مماثل لدى الإنسان السعودي، وهذا أيضا صحيح؛ لما يستغرقه ذلك من زمن أطول وجهد وتكاليف مادية أكبر، لهذا وجد الإنسان السعودي نفسه في سباق شديد مع تسارع التطورات الحضارية من حوله، بل إنه في مراحل من عمر التنمية قد تجده دفع ثمنا باهظا جدا نتيجة تأخره، بعض ذلك الثمن ما زال يدفعه حتى وقتنا الراهن، وخير شاهدٍ هنا على هذا الأمر؛ تدني مساهمته في سوق العمل في القطاع الخاص، رغم ارتفاع مستوى تأهيله التعليمي، وتدنّي نسب ملكيته في أصول الإنتاج والعقارات ومراكز الثروات المدرة، ولهذا يواجه عديدا من أوجه الاحتكار في مختلف أنشطة الاقتصاد، التي تتسابق الجهود في الوقت الراهن للحد منها، على أنّ تلك الجهود ما زالت نتائجها حتى اليوم أدنى من المأمول بدرجة كثيرة.
اليوم، يختلف كثيرا الإنسان السعودي عن سلفه الإنسان قبل أكثر من أربعة عقود! فعلى الرغم من محدودية تعليم وخيارات سلفه قبل نحو 40 عاما أو أكثر، إلا أن أوضاعه المعيشية لم تصل إلى مستوى التحدي الجسيم الذي يتعايش معه إنسان اليوم. يزيد من عبء الوضع الراهن؛ أن الإنسان السعودي في العصر الراهن أصبح على درجةٍ مرتفعة من التعليم، فخلال 20 عاما مضت، لم يكن عدد الأفراد حملة الشهادة الجامعية يتجاوز 275.6 ألف نسمة في عام 1992 (190.6 ألف رجل، 85.0 ألف امرأة) شكلوا أقل من 3.8 في المائة من إجمالي السكان فوق 15 سنة، ارتفع هذا العدد بنهاية 2013 إلى نحو 2.3 مليون نسمة (1.2 مليون رجل، 1.1 مليون امرأة) أي ما يشكل 17.4 في المائة من إجمالي السكان فوق 15 سنة! هذا عدا انحسار معدلات الأمية والمستويات المتدنية من التعليم من نحو 85 في السكان فوق 15 سنة، لما دون 44 في المائة.
كما أن خيارات ومصادر التعلم والوعي والمعرفة تعددت وازدادت كثافة بالنسبة للإنسان السعودي اليوم، إلا أنه في المقابل زادت التحديات الحضارية والاقتصادية بدرجة أكبر، وقللت كثيرا من فرص توظيفه لتلك القدرات والإمكانات المتوافرة لديه، سواءً على مستوى نيله لفرصة العمل الملائمة، أو قدرته على بناء الأسرة وتوفيره للمسكن اللائق، أو قدرته على زيادة دخله ومن ثم حجم مدخراته، بل تجده اليوم يتورط في ديون مصرفية طائلة، ويواجه ظروفا مادية واجتماعية بالغة الصعوبة. طبعا كل هذا لا يجب أن يغيب عن المشهد كنتيجة حتمية، تقلص مساهمته ومشاركته في عملية البناء والتطور واتخاذ القرارات وتحديد الاتجاهات داخل البيئة والمجتمع الذي ينتمي إليه، وهذه الناحية الحضارية الغائبة على التفكير المجتمعي، تسهم في زيادة الضغوط على تفكير وخيارات الإنسان السعودي.
إذا كانت التقديرات تشير وفقا لمسارها الراهن، إلى احتمال ارتفاع حملة الشهادة الجامعية من السعوديين في منظور العشرة أعوام القادمة لأكثر من 5.3 مليون نسمة (2.5 مليون رجل، 2.8 مليون امرأة) نحو 31 في المائة من السكان فوق 15 سنة، وكما يلاحظ أن المرأة ستتفوق على الرجل من حيث التأهيل العلمي، فكل تلك التطورات تتطلب نقاشا مستفيضا، وتحليلا يستهدف ما يجب القيام به على المستويات كافة، وبحث خيارات زيادة تمكين الإنسان السعودي، هو محور المقالات القادمة بإذنه تعالى. والله ولي التوفيق.