مرصد للرأي العام والتغيرات المستقبلية
غني عن القول إن التغيرات السريعة والمتوالية تمثل تهديدا حقيقيا لأمننا الوطني، وهذا يعني أن علينا الاستعداد والإعداد للقادم من الأيام بقرارات مصيرية وجريئة وجذرية واستراتيجية، والأهم مبنية على معلومات وحقائق يستدل منها اتجاه ونمطية الأحداث وتوجه الرأي العام المحلي. فالقوة الاقتصادية وحدها وإن كانت ذات تأثير، إلا أنها لم تعد كذلك. فمنذ انتهاء الحرب الباردة وسيطرة الولايات المتحدة على زمام السياسة الدولية كقوة عظمى لا منازع لها، تغيرت قوانين اللعبة الدولية وتحولت من علاقة مصالح وتفاوض على النفوذ والاصطفاف السياسي لمحور الغرب أو الشرق إلى فرض الأمر الواقع بمدى يتحدد بقوة الطرف المقابل ودرجة الاستفادة مما يملكه ويستطيعه في تحقيق أهدافه الاستراتيجية في المنطقة. على سبيل المثال وإن بدا هناك عداء شكلي يأخذ صفة التراشق الإعلامي بين الولايات المتحدة وإيران إلا أن الأخيرة تمثل أداة فاعلة في القضاء على أهل السنة الذين يمثلون حسب رأي الغرب الخطر الداهم الذي يتهددهم، وفي الوقت نفسه شق صف المسلمين من الداخل وهو أجدى وسيلة للقضاء على الدعوة المحمدية برمتها التي تنازعهم السيطرة على العالم مستقبلا. هذه التغيرات قد نتشاغل عنها رسميا وشعبيا عندما تستغرقنا نقاشات وحوارات حول قضايا فرعية ليست ذات أولوية، وليست ذات تأثير في صناعة المستقبل، أو ربما الظروف والضغوط الخارجية جعلتنا نعيد صياغة بعض ثوابتنا الوطنية من باب التجديد ومحاولة الاتساق مع التوجهات الدولية وكسب التأييد الخارجي تجنبا للدخول في صراعات ثقافية وسياسية مع الآخر. وعلى أن هذا يعد من مقتضيات السياسة ومحاولة الخروج من الأوضاع الحرجة التي قد تكون مفروضة علينا بأقل الخسائر، إلا أنه يبقى أمرا خطيرا وحساسا ونحتاج إلى التعامل معه بدقة متناهية، لأنه يمس التوازن الاجتماعي وآلية ضبطه ويقترب من تشويه هويتنا التي هي مصدر كينونتنا وقوة تلاحمنا وسر استمرارنا لمدى قرون. فكيف لنا أن نكون أكثر قدرة على التفاوض وأن نحصن مجتمعنا وجبهتنا الداخلية من الاختراق الخارجي الذي هو أحد وسائل العدو في محاولة ابتزازنا سياسيا والنيل من ثوابتنا الوطنية التي هي مرتكز اجتماعنا ومدار لحمتنا؟ إن ذلك يعتمد ببساطة على مدى استباقنا للأحداث بالتخطيط للمستقبل بوقت كاف، بل صناعته برؤية وخطة استراتيجية نلتزم تنفيذها. هذا يشترط بيئة عمل وطني تسمح بمناقشة الموضوعات التي لا تقبل النقاش وجعلها قابلة للنقاش بمناخ من الانفتاح والحرية يسمح بالتعلم وإدراك الواقع بوضوح دون تزييف المتملقين الذين يقولون ما لا يفعلون ولا تهور المتغربين الذين يريدون أن يقفزوا بالوطن للهاوية ولا تزمت المتحجرين الذين يأبون التفكير الإبداعي وفهم الواقع. وإنما يجب رسم مسار يصل الحاضر بالمستقبل ويحدد الخيارات الرشيدة وأقول رشيدة أي أنها مبنية على حسابات كمية موضوعية حيادية دقيقة تحقق تعظيم العائد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا تخضع لهوى النفس، ولا الأنانية الشخصية، ولا المنافع الآنية، ولا المصالح الضيقة. لا شك أن أحداث تغييرات جذرية والخروج عن المعتاد ستكون مؤلمة وقاسية سياسيا واقتصاديا للمجتمع بجميع مستوياته الرسمية والشعبية، ولكن لو طبقت بالعدل والمساواة فإنها ستكون أكثر قبولا من العموم. إن مواجهة التحديات والمستجدات تستلزم معرفتها والإعداد لها بوقت كاف، إذ كلما كان هناك متسع من الوقت كان ذلك أدعى إلى نكون في موقف يمنحنا قوة التصرف وصناعة قرارات أكثر رشدا وحكمة، لأن معلوماتنا تكون أكثر حجما ودقة والبدائل المتاحة أكثر ولا نكون أسرى الوقت والضغوط. إن القرارات الحاسمة والمؤثرة لا يمكن ولا ينبغي أن تؤخذ عند حدوث الأزمات لأنه حينها تكون القرارات ردات فعل سريعة غير محسوبة بدقة وقد تشوبها العاطفة وضبابية في الرؤية وبالتالي يكون هناك احتمالية كبيرة للوقوع في الخطأ وقد يكون الثمن باهظا سياسيا واقتصاديا.
إن الرأي العام مكون أساس في صياغة السياسات العامة ورسم المستقبل، فإدارة المجتمع تقتضي معرفة التوجهات العامة ومن ثم تعزيز الإيجابيات وتقليل السلبيات. لا يمكن تصور أن يبقى العموم سلبيين ماكثين في مقاعد المتفرجين يتسابقون على انتقاد الأوضاع دون أن يسهموا في التنمية الوطنية. لابد أن يكون هناك توجيه معنوي وثقافي بخطط وأهداف تعزز الهوية الوطنية والانتماء السياسي للدولة وتدفع نحو حراك اجتماعي فكري بهذا الاتجاه الوطني خاصة في ظل التحدي الثقافي الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي. والمقصود بالحراك الاجتماعي الفكري أن يتم تأكيد الهوية والوطنية وتسخير الجهود الرسمية والشعبية في تعزيز الثوابت الوطنية التي من أهمها توافق السلطة السياسية والدينية. وهذا بطبيعة الحال يقتضي دراسات ميدانية لاستشفاف الرأي العام وقياسه حيال القضايا المستجدة من حين لآخر ومن ثم اتخاذ السياسات المناسبة لتلبية احتياجات العموم الثقافية والاقتصادية. إن لكل قرار حكومي تأثيراته الجانبية الإيجابية والسلبية وتداعياته على التفكير الجمعي ولذا لابد من التعرف على الرأي العام واستشفاف الاحتياجات المجتمعية والأولويات، ليس ذاك فحسب وإنما أيضا العمل على تعديل المزاج العام وضمان رؤية مشتركة متماسكة ومتجذرة في فكر ووجدان المواطن لا تهزها الأقاويل والإشاعات ولا تبدلها الأخطاء والهفوات ليكون الوطن فوق كل اعتبار. إن من شأن التعرف على الرأي العام رفع مستوى الوعي الجماعي وجعل الجميع على بينة من الأمر. إن من أخطر الأمور التي تجلبها وسائل التواصل الاجتماعي تكوين فكر جماعي ورؤية مشتركة بين الناس سلبية تغذيها جماعات خارجية متعددة ومتنوعة ولكن متفقة على عداء الوطن والعمل على زعزعته وتفكيكه. ومتى ما كان هناك فكر جماعي يخالطه إحساس بالظلم كان هو الدافع للخروج على الإجماع الوطني. إذ إن الإحساس بالظلم أشد من الظلم نفسه لأن الظلم يزول بزوال مسبباته لكن الإحساس بالظلم لا يزول لأنه في الأساس وهم لا وجود له في واقع الأمر، وإنما يكون بفعل الثقافة المبنية على الكراهية والمعلومات المغلوطة والشائعات المفبركة ساعد على ذلك بعض الأوضاع الخاطئة وحالات من الفساد الإداري والمالي. وهذا يؤكد ضرورة تصحيح المفاهيم والرؤى لدى العموم عبر دراسات ميدانية تتيح الفرصة لمعرفة ما يدور في أذهانهم، وما تطلعاتهم المستقبلية؟ وما مواقفهم تجاه الأحداث؟ وهنا نؤكد أنه لا أحد يستطيع ادعاء معرفة ما يدور في أذهان الناس، أو هل سكوتهم علامة رضا؟ وما ردود أفعالهم تجاه بعض القرارات والسياسات الحكومية؟ ولذا فإن إنشاء مرصد للرأي العام والتغيرات المستقبلية يحتل أولوية وطنية قصوى وقد يكون المكان المناسب لإنشائه قسم الإدارة العامة في جامعة الملك سعود.