كيف تسهم كفاءة الطاقة في تعزيز النمو والوظائف؟

تخيّل منزلين متجاورين.. أحدهما بنوافذ قديمة متصدعة، بلا عزل حراري، وتُشغّل فيه أجهزة منزلية قديمة، والآخر تحيطه لمسات ذكية بسيطة، مزوّد بأجهزة كهربائية حديثة وموفرة للطاقة، ويعكس تصميمه كفاءة واضحة، الفرق بين هذين المنزلين يتجاوز المظهر الجمالي. ففي الشتاء، قد يدفع سكان المنزل الأول ما يصل إلى 5 أضعاف تكلفة التدفئة، مقارنة بعائلة ميسورة تسكن على بُعد خطوات، في منزل أكثر كفاءة في استخدام الطاقة.
والدليل الأوضح على ذلك فواتير استهلاك الطاقة، فعدم الكفاءة في استخدام الطاقة وهدرها يثقل كاهل الأسر منخفضة الدخل، التي تجد نفسها تدفع أكثر مقابل طاقة أقل، هذه الأسر تنفق بالفعل جزءًا كبيرا من دخلها المحدود على الطاقة والاحتياجات الأساسية الأخرى، أما بالنسبة إلى كثيرين، تظل كفاءة استخدام الطاقة حلماً بعيد المنال، إما بسبب عدم القدرة على تحمّل تكاليفها، أو لنقص المعلومات حول الأجهزة الموفّرة المتاحة في السوق. إنها حلقة مفرغة. وعندما تصبح التدفئة عبئاً مالياً لا يمكن تحمّله، تجد الأسر نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرّ: إما إطفاء المدفأة وتحمل لسعات البرد، أو العودة إلى استخدام أنواع وقود أكثر تلويثاً، مثل الحطب أو الفحم. وينطبق الأمر نفسه على التبريد، الذي لا يزال مكلفاً للغاية بالنسبة إلى كثير من الأسر.
يتجاوز التحدي المرتبط بكفاءة استخدام الطاقة حدود التدفئة والتبريد، فهو قضية ذات اهتمام عالمي، حيث يُهدر نحو ثلثي الطاقة المُنتجة على مستوى العالم، ما يشكّل خسارة تُقدَّر بنحو 5% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وفي البلدان النامية، حيث من المتوقع أن يرتفع الطلب على الطاقة بأكثر من 30% بحلول 2050، يبرز سؤال ملحّ: هل يمكن تحقيق النمو دون هدر الموارد؟ الإجابة الواضحة: الحل في كفاءة استخدام الطاقة.
لكن ما يدعو للأسف أن كفاءة استخدام الطاقة لا تحظى بالأولوية التي تستحقها لدى معظم الحكومات، إذ لا تزال تمثّل نسبة ضئيلة من إجمالي استثمارات الطاقة في الاقتصادات الصاعدة، وغالباً ما تغيب السياسات الداعمة، ويؤدي نقص التمويل وندرة المعلومات الموثوقة إلى عرقلة مسار التقدّم، ونتيجة لذلك، يستمر عديد من الحكومات في الإنفاق المفرط على زيادة إمدادات الطاقة الجديدة، ويعتمد بشكل متزايد على استيراد الوقود، ما يفاقم الأعباء المالية ويُثقل كاهل قطاعات الطاقة بتراكم الديون، وفي النهاية، يتحمل المستهلكون والشركات عبء هذه التكاليف، ما يجعل تكلفة الفرصة البديلة لتحقيق النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وحماية البيئة مرتفعة جداً.
بناء على ما سبق، يجب أن يتغير هذا الوضع. ويؤكد تقريرنا الجديد أهمية زيادة الاستثمارات السنوية العالمية في مجال كفاءة استخدام الطاقة إلى 3 أضعاف لتبلغ نحو تريليوني دولار بحلول عام 2030، إذا أردنا تلبية الطلب المتزايد على الطاقة على نحو مستدام. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في البلدان النامية، حيث تمتد منافع كفاءة استخدام الطاقة لتشمل آثاراً إيجابية بعيدة المدى، منها خفض فواتير الطاقة، وتحسين جودة الهواء، وخفض الانبعاثات، وتعزيز قدرة البنية التحتية على الصمود، فضلاً عن توفير ملايين الوظائف الجديدة، فمقابل كل دولار يُستثمر في كفاءة استخدام الطاقة، تتحقق عوائد تراوح بين 3 و5 دولارات.
في 2022، أصبحت كفاءة استخدام الطاقة المصدر الرئيسي للوظائف في قطاع الطاقة، حيث أسهمت في توفير فرص عمل لنحو 11 مليون شخص حول العالم، فعلى سبيل المثال، في بولندا، يُتوقع أن يوفّر البرنامج الوطني: أولويات الهواء النظيف، الذي يهدف إلى تحديث أنظمة التدفئة في نحو 2.5 مليون منزل، أكثر من 100 ألف فرصة عمل. أما في الهند، فقد أسهمت شركة خدمات كفاءة استخدام الطاقة المحدودة، وهي مبادرة حكومية لتعزيز كفاءة الإضاءة والأجهزة الكهربائية والمركبات الكهربائية، في خلق نحو 700 وظيفة مباشرة، فضلاً عن آلاف الوظائف غير المباشرة.
ينبغي أن تكون الحكومات قدوة يُحتذى بها، من خلال تعزيز كفاءة مبانيها العامة مثل المدارس والمستشفيات، وتطبيق قوانين (أكواد) بناء صارمة ومعايير عالية الكفاءة للأجهزة والمعدات، وإطلاق برامج وطنية لإعادة تأهيل المباني القائمة ورفع كفاءتها، فضلاً عن تنسيق السياسات واتساقها لتوفير بيئة ملائمة تجذب استثمارات القطاع الخاص.
قد يستغرق تنفيذ السياسات والبرامج الشاملة لتعزيز كفاءة استخدام الطاقة وقتاً، لكن عوائدها مجزية، فالبلدان التي تبنّت إصلاحات طموحة بدأت تجني ثمار جهودها بالفعل: انخفاض في التكاليف، واقتصادات أكثر قوة، وفرص عمل أفضل. فلنعمل معاً على جعل كفاءة استخدام الطاقة محرّكاً لتحقيق نمو شامل ومستدام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي