التغيرات وضرورة تطوير العمل المؤسسي النيابي

تشكل الأحداث التي تمر بها المنطقة اختبارا حقيقيا لقيم المجتمعات الإسلامية وتمحيصا للهوية الإسلامية من الناحية العقائدية والعلمية والسياسية، تغيرات سريعة ومفاجئة وكبيرة تشهدها المنطقة تجعل الحليم حيران يعجز عن فهمها، فضلا عن أن يجد تفسيرا منطقيا لما يحدث على الأرض واستيعاب القرارات المتناقضة وردات الفعل المتباينة من المجتمع الدولي ودول المنطقة تجاه أحداث متشابهة تتطابق في الدافع وحجم الجرائم وما تحدثه من أضرار وتهديد للسلم العالمي. يقف الواحد منا مشدوها صامتا أمام مشهد مليء بالمتناقضات، وقد اختلطت الأمور وتشابكت المصالح ليرى أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وما كان غير مقبول أصبح مقبولا بل مطلوبا. لقد اختلت القيم والمبادئ والرؤى في لمح البصر حتى لم يعد الإنسان يعرف هويته وموقفه تجاه ما يجري لتختلج في صدره مشاعر مختلطة وتتداعى في ذهنه أفكار من أقصى طرف إلى أقصى طرف. إن أصعب تحد يواجه الأفراد وحتى الدول هو الخروج عن المألوف والنمط المعتاد والدخول في أوضاع جديدة تمتحن خبرتها وقيمها ودرجة تماسكها بها. لا شك أن بعض الظروف تكون قدرا محتوما لا خيرة للمرء ولا للمجتمع فيما يحدث ولكن المهم هو ردة الفعل التي تحدد كيفية التعامل مع هذا المستجد الطارئ. وإذا كان بالإمكان فيما مضى استيعاب واحتواء تلك التحديات بأساليب الترغيب والترهيب فإن طبيعة التحديات الجديدة تتطلب نوعا آخر من المعالجات الجذرية طويلة المدى تعتمد على إحداث تغييرات في أسلوب وهيكل صناعة القرار العام وتعزيز العمل المؤسسي ليؤكد ويقوي الثوابت الوطنية التي لا انفكاك عنها فهي سر كينونتنا وهويتنا كدولة وكمجتمع وكأفراد. وهذا يؤكد أن قوتنا كمجتمع تنبع من داخلنا ومدى ارتباطنا وقناعتنا بثوابتنا الوطنية التي ظلت لقرون مصدر لحمتنا الاجتماعية وسبب ما نحن فيه من نعمة الأمن والأمان والرخاء الاقتصادي واستدامة نظامنا السياسي والعلاقة الحميمية بين الحاكم والمحكوم. إننا في السعودية نعيش كأسرة واحدة يسودها التراحم والتعاون والتحاب متمسكين بحبل الله إخوانا، إلا أن عددنا زاد وزادت معه نسبة التحضر واختلطنا مع ثقافات أخرى وتغير نمط استهلاكنا وسقف توقعاتنا وتعقدت مشكلاتنا وزاد طمع الآخرين فينا بحثا عما يفرقنا وإيجاد فتن تضعفنا وتشتت جمعنا، ولذا كان لزاما التفكير بطريقة جديدة لتعزيز ترابطنا الاجتماعي والسياسي منطلقين من ثوابتنا الوطنية التي أهمها الالتزام ببيعة شرعية لحكام هذه البلاد الذين يطبقون شرع الله وبه يعدلون. إن مشاعر الولاء والانتماء لهذه الأرض الطيبة لابد من توثيقها مؤسسيا، بحيث تكون هناك قنوات للتعبير الجماعي. وهذه القنوات ليست غائبة بل حاضرة تحت قبب المجالس النيابية، ولكن تحتاج إلى تطوير، فالمجالس النيابية سواء الشورى أو المناطق أو المحلية أو البلدية جميعها تتطلب توسيع دائرة صلاحياتها وأدوارها لتكون رافدا في تعزيز اللحمة الوطنية وإدارة الرأي العام ووضع التصورات المستقبلية للمجتمع. إن تطوير سلطات هذه المجالس من شأنه تعزيز دورها في تناول القضايا العامة وتحديد الأولويات والإسهام بمعالجة المشكلات بشكل فاعل وإتاحة الفرصة للمواطنين في المشاركة بفاعلية في الحفاظ على المكتسبات الوطنية التي أهمها الأمن والإيمان والإفصاح عن مشاعرهم الوطنية حيال التزامهم بالبيعة الشرعية.
إن الأحداث وإن كان بعضها سيئا ومؤلما إلا أنها نعمة تبين لنا مكامن الخطأ فنسارع لعلاجها ونعلم الجوانب الإيجابية فنعززها ونحافظ عليها. إن الأحداث هي في واقع الأمر تجارب تجعلنا ندرك بوعي هويتنا وقوتنا وتضع لحمتنا واجتماعنا تحت الاختبار. إن علينا أن نخرج من هذه الأحداث بدروس نستفيد منها في النظر بعين التجرد لواقعنا وبعين الطموح لمستقبلنا ومن ثم العمل على تطوير أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية لتتواكب مع التغيرات وتكون أكثر قدرة على إدراك الواقع واليقظة لما يجري والإعداد للمستقبل بمبادرات رشيدة وجريئة تجعلنا في موقع المسيطر والمتحكم بالأحداث والإمساك بخيوط اللعبة. وهذا يستلزم بالضرورة تقوية جبهتنا الداخلية بتصفيتها من المرجفين وأولئك الذين يدعون إلى الإصلاح خارج دائرة المشترك الوطني ويستغلون الأحداث للاصطياد في الماء العكر لتفتيت وحدتنا الثقافية والسياسية، فتارة يركبون موجة محاربة التشدد ومرة يتشدقون بالديمقراطية. والسبيل إلى فضح أولئك المندسين الذين يظهرون خلاف ما يضمرون هو تطوير العمل الجماعي المشترك وجعل أفكارهم وتصرفاتهم تحت الضوء. هكذا فقط نستطيع أن نعرف من يخون البلاد وأهلها ومن يصدق في ولائه وانتمائه. ومتى ما كان الجميع على بينة من الأمر في إطار مؤسسي واضح المعالم يحدد المسؤوليات ويجلي التوقعات كان ذلك أقوى للحمة الوطنية الداخلية ومنها ننطلق لنواجه التحديات الخارجية. وعلى الرغم من أن العلاقات الدولية وتبادل المصالح مع الآخرين أمر ضروري ومهم، إلا أن قوة جبهتنا الداخلية وعمق جذورها المؤسسية النيابية هي المرتكز في إدارة تلك العلاقات وهي ما يمنحنا قوة التفاوض وتحقيق أهدافنا وتوجهاتنا. ومن يقرأ التاريخ يعلم أن سر قوة السعودية كدولة ليس النفط فقط، فقد كانت لاعبا رئيسا في السياسة الدولية حتى قبل اكتشافه، إنها اللحمة الداخلية للمجتمع حول قيادته الشرعية التي تحكم بما أنزل الله، وهو ما يخشاه الآخرون ويحسبون له ألف حساب. ولذا كان علينا التمسك بهذه الشرعية من خلال تطويرها مؤسسيا وتوثيق الدعم الشعبي وإظهار الولاء الراسخ من خلال تطوير العمل النيابي استنادا إلى قيم ومبادئ الإسلام الحضارية العظيمة. إننا نعيش في بحر لجي تتلاطم فيه الأمواج ويتداعى فيه الأعداء علينا من كل حدب وصوب من حيث ندري أو لا ندري. وهذا ما يؤكد ضرورة تطوير العمل الجماعي المؤسسي فجميعنا مسؤول عن أمن الوطن وسلامته لأنه أمانة في أعناقنا.. حبه إيمان والموت في سبيله شهادة. اللهم احفظ السعودية وأهلها واجعلها منارة للهدى والسلام والمحبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي