تغيير البارادايم

لم يتعرض مذهب فلسفي للنقد بقدر ما تعرضت له الماركسية. وهو أمر قد يشير إلى حجم التحدي الذي انطوت عليه مقولاتها. والمؤكد أنها قد تركت تأثيرا عميقا، ليس فقط على المدارس الفلسفية المعاصرة، بل أيضا على شريحة معتبرة من العلوم الإنسانية، ومن بينها علم الاجتماع وفروعه. من بين الأمثلة التي تذكر في هذا الصدد ربطها الشديد بين الذهنية الجمعية والظرف الاقتصادي.
جادل الماركسيون أن الاقتصاد يقود إلى إعادة تشكيل المجتمع على شكل طبقات متباينة، لكل منها ثقافة خاصة تبرر رؤيتها للعالم وتعاملاتها مع المحيط. انطلاقا من هذا، فهم يرون مثلا أن العمال يفكرون على نحو مختلف عن الفلاحين، كما يختلف هؤلاء عن الطبقة الوسطى "البرجوازية الصغيرة"، وتختلف هذه عن الطبقة العليا والمهمشين.
لم يعرض الماركسيون ما يكفي من الأدلة الواقعية التي تؤكد حتمية تلك العلاقة. ولا سيما في كون الاقتصاد عاملا وحيدا في تشكيل الذهنية الفردية والعامة أو توجيه الثقافة. لكن لا شك أن تلك المقاربة قد لفتت أنظار دارسي علم الاجتماع إلى أهمية نظم المعيشة ومصادرها ووسائل الإنتاج في تشكيل الذهنية الجمعية. بفضل مجادلات الماركسيين تلك، نستطيع اليوم وضع تفسيرات متينة نسبيا للفوارق الذهنية والثقافية بين المجتمعات القروية والمدينية، وبين المجتمعات الصناعية والفلاحية، كما نستطيع وضع تفسيرات محتملة للفوارق بين ذهنية البيروقراطي والتاجر والمهندس.
أسوق هذا الكلام في إطار النقاشات الجارية اليوم في المجتمع السعودي حول الثقافة التي تغذي العنف والإرهاب. وغرضي هو الإشارة إلى أن "تغيير الثقافة" لا يقتصر على تغيير الأدوات الثقافية مثل المناهج الدراسية أو خطب الجمعة، وهو بالتأكيد لا يتحقق بحظر أنواع معينة من الكتب أو محاصرة تيارات ثقافية ودينية محددة. كما أن الإرهاب لا ينتهي لمجرد حصول العاطلين جميعا على وظائف.
كل من هذه العناصر يشكل جزءا ضروريا من منظومة علاج شاملة وطويلة الأمد. لكن استمرار فاعليته، أي تحوله من علاج آني إلى علاج جذري، رهن بتفاعله مع عناصر العلاج الأخرى، أي المنظومة الكاملة التي تستهدف تغيير "البارادايم"، أي النسق الحياتي والثقافي القديم الذي أتاح الفرصة لتبلور ذهنية الانقطاع والتفارق، ومهد ــــ بالتالي ــــ للميول العنفية.
إني ببساطة أدعو للتفكير في علاقة النظام المعيشي/ الاقتصادي بالثقافة العامة في المملكة. ربما تكون الثقافة التقليدية عاملا في تعزيز الميل للعنف، لكني أتساءل: لماذا يميل الناس إلى هذه الثقافة تحديدا، ولماذا يميلون خصوصا إلى جانب المنازعة فيها وليس جانب اللين؟ هل لنظام المعيشة دور في ترجيح هذا على ذاك؟
أجد مهما أن نفكر في "الميل للعنف" كظاهرة اجتماعية مركبة، ناتجة عن مقدمات مختلفة، وليس مجرد حلقة مستقلة، أو نتيجة لعامل وحيد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي