الأمور لا تحدث من فراغ .. ولكن في الفراغ
حقيقة يجب إدراكها لفهم ما يجري حولنا وتقوية موقفنا والتصدي للتحديات وبناء القدرة في إحداث تغييرات على الأرض لمصلحتنا. والتغيير الاجتماعي والسياسي أمر ليس بالسهل ولكن مفهومه بسيط يقتضي النظر للقوى المتضادة في الوضع الحالي وتحليلها ومن ثم العمل على زيادة الدافعة منها والتقليل قدر الإمكان من المثبطة لها للوصول إلى توازن جديد ننشده. فأي وضع اجتماعي بما في ذلك الأوضاع السياسية والاقتصادية هو نتيجة حتمية لتدافع القوى المتضادة حتى يصل إلى حالة من التوازن فيما بينها. ومتى ما طرأ تغيير جديد في ميزان القوى أدى ذلك إلى خلق توازن جديد يترجم إلى وضع جديد. فكيف تحدث عملية التغيير؟ عندما تضعف بعض العوامل في المجال الاجتماعي- السياسي التي كانت سببا في التوازن الحالي يسبب ذلك اختلالا أو بمعنى أصح فراغا لابد من ملئه أو عندما تقوى بعض العوامل عما كانت عليه تحدث ذلك التغيير في ميزان القوى ما ينشأ عنه توازن جديد. وهذا يثبت حقيقة أن الأمور لا تحدث من فراغ، ولكن في الفراغ ما يعني أن هذا القانون الفيزيائي ينطبق تماما على الحالات الاجتماعية والسياسية كما في الحالة المادية. ولكن لماذا الحديث بهذه اللغة الفلسفية والتنظير العام؟ لأنه لا يمكن التعامل مع الواقع إلا من خلال فهمه وتحليله والتنبؤ بالمستقبل والإعداد له والأفضل المبادرة في صناعته. لقد أصبحت الأمور أكثر تعقيدا وبالتالي تتطلب فهما أعمق وإدراكا أوسع ونظرة بعيدة المدى، وليس ردود أفعال آنية سريعة عاطفية. إن الحلول الناجعة تستلزم بالضرورة ربطها بالواقع بفهم صحيح للمشكلة وإدراك تام لأبعادها، فالحل الأفضل ليس الأمثل النموذجي ولكن الواقعي العملي الذي يلبي الاحتياج وله التأثير المطلوب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن القيم الاجتماعية تتفاوت وتختلف بين المجتمعات فما يصح لمجتمع قد لا يكون مقبولا في مجتمع آخر. الديمقراطية الغربية على سبيل المثال ربما يتفق معها على قيم الحرية السياسية والحفاظ على الحقوق الفردية، ولكن قد يختلف مع آلياتها خاصة فيما يتعلق بالتعددية الحزبية وحكم الأكثرية وسيطرة جماعات المصالح. ولذا عندما يصور البعض النموذج الديمقراطي على أنه هو النموذج المطلوب تطبيقه لتطوير مجتمعنا الإسلامي المحافظ يكون ذلك على حساب تطبيق الشريعة. إذ يجب أن نفهم أن الديمقراطية دين يحدد ما يصح وما لا يصح، ومن هنا يفهم مسعى أولئك الذين ينادون بالديمقراطية في تفكيك قيمنا الإسلامية إذ لا يمكن الجمع بين منهجين وفلسفتين مختلفتين في تطبيق قيم الحرية والحفاظ على الحقوق وممارسة العدل والمساواة في السلطة العامة، ولذا من أجل تطبيق الديمقراطية يلزمهم تمييع الثقافة الإسلامية واختزالها في طقوس وشعائر دينية تخص الفرد وليس نظاما سياسيا يدير المجتمع. إذ لا يمكن الجمع بين مختلفين في آن واحد. ولا شك أن هناك حربا ضروسا تشن ضد الإسلام سواء من بعض أبنائه أومن أعدائه في الخارج. وهذه مسألة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار. فالمشهد في المنطقة ينطق بذلك فميل الولايات المتحدة مع القوى الشيعية بحجة تطبيق الديمقراطية وتحقيق العدل والمساواة جاء لزرع الفتنة وضرب القوى الإسلامية بعضها ببعض خاصة أن المذهب الشيعي يقوم على اختلاف عقائدي في الأصول وليس الفروع يصل حالة من الكراهية تبلغ حد سب وشتم رموز السنة. كما أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة قام بخلط الأوراق وألصق تهمة الإرهاب بكل من يلتزم قيم الإسلام الصحيحة حتى أتباع السلفية التي هي منهاج الوسطية والعقيدة الصحيحة لدين الرحمة والتواد والحرية والكرامة والعدل والمساواة. وتبعها في ذلك جهال القرن الـ21 من أصحاب الأفكار البسيطة السطحية الذين يظنون أن الحرية تعني التحرر من الدين وأن التقدم والتطور بالانفساخ من القيم الإسلامية. والوصف هنا ليس للتقليل من شأن أحد ولكن لتوضيح حالة من التمييع الثقافي الذي أصاب البعض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولو كان بأيديهم لجعلونا نلبس ونأكل ونتصرف حسب الثقافة الغربية اعتقادا أن التغريب هو نفسه التطوير والتنمية، ولذا هم يعادون الدين شعائر وقيما وتعليما ورموزا ولكن ما يفعلونه في واقع الحال هو عملية تفريغ حيث تكون ثقافتنا هواء. هذا هو الفراغ الذي يسعى الغرب لإحداثه ثم العمل على ملئه. إن الغرب لا يهرول من عبث فعملية التغيير الاجتماعي- السياسي تبدأ بالإذابة ومن ثم إدخال التغييرات المطلوبة ومن بعد ذلك العمل على تثبيتها.
وما يهم في هذا الموضوع ليس الغرب وما يخطط له فهم أعداء أو على أقل تقدير منافسون على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية وما يفعلونه من الرغبة في الغلبة حق مشروع، ولكن ما الذي أعددناه لمواجهة هذه التحديات وهل نحن قبل ذلك نعرف ونعترف بعداء أو منافسة الغرب لنا. لقد أصبح العالم أكثر تداخلا فكل المجتمعات تؤثر وتتأثر ببعضها بعضا ولكن بمستويات متفاوتة تماما مثل التبادلات التجارية التي قد يكون الميزان التجاري لصالح اقتصاد على حساب اقتصاد آخر فكذلك السياسة والثقافة. إن هويتنا الثقافية مرتكز أساس في التعامل مع الآخر ويقع المنهج السلفي في جوهرها، ولذا فإن محاولة النيل منه ومن رموزه هو تمييع للهوية وخلق ذلك الفراغ الذي يراد ملؤه بقيم سياسية وثقافية أخرى. وهنا يكون من الأجدر استحضار الإرث السياسي السعودي على مدى القرون الماضية الذي اعتمد النظام السياسي على الشريعة الإسلامية منهاجا ودستورا فقوي بها وتقوت به تطبيقا ولم يستطع الأعداء على مدار الأزمنة النيل من سيادة الدولة أو التجرؤ على أمنها واستقلالها. فكان تكريم العلم والعلماء الشرعيين والدعاة مكونا أساسيا في النظام السياسي لأن الشريعة شرعية النظام وما يجعله ممتلئا ثقافيا وسياسيا لا يقدر على اختراقه الأعداء. لقد حان الوقت أن ندرك أن الأمور لا تحدث من فراغ ولكن في الفراغ.