هل الأغلبية دائما على حق؟
قضية الأغلبية في المجتمع من القضايا الشائكة ذات التأثيرات البالغة على عدة مستويات وفي عدة مجالات، من سياسية واجتماعية وثقافية، إلى اقتصادية ورياضية وفنية. مصدر الإشكالية يتعلق بطبيعة قرارات الأغلبية وعلاقتها بالحق والباطل والصح والخطأ، وتأثيرها على حقوق الأقليات وحرياتهم، وما إذا كان هناك بدائل لقرارات الأغلبية وطرق منهجية معينة لمنع سوء استغلال الأغلبية لقوتها ونفوذها. هل الأغلبية دائما على حق؟ هل الشارع على حق؟ هل الجمهور على حق؟ كيف تتخذ القرارات في بيئة تحكمها الأغلبية، سواء كانت أغلبية رسمية أو أغلبية مفترضة؟
نحن أمام مجتمعات عربية في طور التقدم والرقي على صعيد الديموقراطية الشاملة، يأتي ذلك نتاج الانفتاح على العالم الخارجي والاطلاع على تجارب الشعوب من خلال وسائل الاتصال الحديثة، وبالذات ما أسفرت عنه وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة من إيجاد قنوات متعددة لإبداء الرأي وطرح الأفكار الجديدة وإعادة نقاش رؤى قديمة وتصورات مختلفة ومتعددة لشتى الأمور. إزاء هذه التطورات وجدنا أنفسنا في الوطن العربي أمام تجربة جديدة على نطاق المشاركات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تطوى صفحاتها يوميا بشكل علني متسارع، تتصارع فيها الأفكار وتتناطح الرؤى وتتخذ فيها قرارات مصيرية تؤثر على مختلف الانتماءات وتتأثر بها.
ما يفوت على كثير من الناس أن الاحتكام إلى الأغلبية ليس معيارا للحق والصواب، فمسألة الحق والصواب من المصطلحات الأخلاقية المبنية على المبادئ والقيم والتقاليد والدين، وليست مصطلحات علمية أو منطقية تثبت بالأدلة والمنطق. من الممكن للأغلبية أن تتخذ قرارا "رسميا"، من خلال عملية سياسية منظمة، ويكون القرار ضارا بآخرين من أفراد وأقليات كثيرة على أسس عرقية أو مذهبية أو جنسية أو فكرية. لذا نجد أن الدستور الأمريكي وملحقاته، على سبيل المثال، أوجد عددا من المبادئ التي لا يمكن تجاوزها حتى إن صوتت على ذلك أي أغلبية مهما كبر حجمها وقوي موقفها. بل إن العملية السياسية الأمريكية تعطي رئيس البلاد حق رفض قرار الأغلبية من خلال "الفيتو"، حيث يتوجب في حينها إعادة القرار إلى مجلسي النواب والشيوخ لدراسته مرة أخرى ومنحه تصويتا أعلى من قبل (أكثر من ثلثي الأصوات بدلا من النصف) وإعادته للرئيس مرة أخرى. وحتى في هذه الحالة، يمكن للرئيس الامتناع عن التصويت وقتل قرار الأغلبية، متى ما شعر الرئيس أن قرار الأغلبية ليس على حق من وجهة نظره. في جميع الأنظمة الديموقراطية هناك محاذير من قوة الأغلبية وضوابط معينة تمنع الأغلبية من التصرف بحرية كاملة، حتى إن كانت معظم الأصوات في صفها وقراراتها "على حق"، وذلك منعا لما يعرف في علم الفلسفة السياسية ببطش الأغلبية.
معضلة قرارات الأغلبية تأخذ بعدا آخر وخطرا أكبر خارج نطاق السياسة بحكم أنه لا يوجد في كثير من الأحيان أغلبية رسمية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فتتخذ قرارات يظن أنها قرارات الأغلبية وهي ليست كذلك، ناهيك عن الخلل في قرارات الأغلبية من الأساس. عندما تطرح لدينا في المملكة مواضيع تتعلق بتوظيف المرأة أو قيادتها للسيارة أو آلية سعودة الوظائف أو كيفية التعامل مع السحرة أو تسعيرة رسوم الدراسة في المدارس الأهلية، أو طرق السيطرة على غلاء الأسعار، أو أي مواضيع متعلقة بالحرية الشخصية وحقوق الناس، فمن هم يا ترى الأغلبية؟ لا توجد وسيلة منظمة لتحديد الأغلبية وقراءة توجهاتها في هذه المجالات، وإن تم ذلك فيكون عن طريق بعض الاستفتاءات الشعبية أو الاستبيانات التي لا تخلو من الخلل. في أحيان أخرى تُستوحى توجهات الأغلبية من خلال وسائل الإعلام، أو من خلال موقف شخص ذي سلطة أو نفوذ أو شهرة إعلامية. بأي حال من الأحوال، الأغلبية لا تصلح دائما أن تكون المُقرر لأنها ببساطة ليست دائما على صواب، والأمثلة البديهية والمشاهدة أن رأي طبيب مختص أكثر صوابا من رأي أغلبية غير مختصة، ورأي فريق من علماء الفيزياء أكثر صوابا من رأي جيش من الناس، ورأي عالم دين متمكن أفضل من رأي غالبية عامة من الناس.
رأي الجماعة لا يخلو من المحاذير التي تجعلنا نتحفظ على قراراتها. التجارب النفسية التي قام بها مظفر شريف و(سلمون آش) منذ أكثر من 60 عاما، وتم تكرارها بعد ذلك عدة مرات، تبين لنا كيف يتأثر رأي الفرد برأي المجموعة، حتى إن كانت المسألة في غاية الوضوح. في إحدى هذه التجارب، تمت دعوة عدد من الأشخاص قيل لهم إن عليهم أن يختاروا الإجابة الخاطئة عندما يسألون عن أقصر خط من ثلاثة خطوط رسمت على اللوح، بحيث كان من الواضح أن الخط الأوسط أقصر من الخطين الآخرين. ومن ثم أتوا بشخص آخر وأدخلوه من ضمن المجموعة، وجعلوه يدلي برأيه بعد قيام عدد من أفراد المجموعة باختيار الخط الخاطئ. في كثير من الأحيان اختار الشخص (الضحية) الخط الخاطئ كأقصر خط، بالرغم من شكه الكبير في كونه الأقصر. تنوعت الأسباب في قيام هذا الشخص باختيار الجواب الخاطئ، إلا أنها تشير غالبا إلى رغبة الإنسان في موافقة رأي الجماعة أو إلى تأثير الضغط الاجتماعي على تفكير الناس. بل إن النتائج أظهرت أن الشخص أحيانا يتخذ القرار الخاطئ حتى إن كان بمفرده بعيدا عن أعين المجتمع، طالما كان على وعي برأي الجماعة!
هناك كذلك ظاهرة الحافلة (باند واغن إيفيكت) التي تظهر بوضوح كيف أن الاقتناع بأمر ما أو بشخص ما، أو القبول بمنتج جديد أو فكر جديد، يزداد مع ازدياد عدد المؤمنين به، والسبب يعود لقوة التأثير الاجتماعي على الشخص. هذا يفسر إلى حد ما سبب التسارع الكبير في تصاعد شعبية داعية إسلامي على الإنترنت، أو نجم غنائي تجاوز الـ 30 عاما دون تحقيق أي شعبية تذكر. يدرس علماء الاقتصاد ظاهرة مشابهة تسمى شلال المعلومات التي تنتج عندما، يقوم الأفراد بتقليد تصرفات من سبقوهم في تبني أمر ما حتى إن لم يكن التصرف عقلانيا مستند إلى معلومات صحيحة، فيحدث تسارع في القبول وشعبية كبيرة للمنتج أو الفكرة. وهذه الظاهرة توسع فيها (مالكوم غلادويل) في كتابه "نقطة التحول: كيف أن أشياء صغير تعمل فوارق كبيرة" حيث قام بدراسة اللحظة التي أسماها الكتلة الحرجة التي من بعدها تتسارع الأمور في سبيل تقبل الفكرة أو المنتج. وهذه من المشاهدات التي نراها باستمرار في حالة مقهى جديد أو أكلة جديدة أو جهاز جديد.
ظاهرة الحافلة وشلال المعلومات ومفهوم نقطة التحول، إضافة إلى ظاهرة التوافق مع الجماعة وعقلية القطيع، وغيرها من الظواهر الاجتماعية تساعدنا في فهم ظاهرة مكائن الخياطة (التي ذهب ضحية تداولها عدد كبير من الناس)، وكذلك فهم اندفاعات أخرى اقتصادية غير عقلانية، من بطاقات سوا إلى المضاربات على الأسهم والعقار. هذه بدورها تجعلنا نتساءل عن صحة قرارات الأغلبية في أي مجال إذا كانت الأغلبية معرضة لعدد من الاختلالات، وصدق الله - عز وجل - بقوله "وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ"، (الأنعام : 116).