حالة فردية
"هناك شخص واحد فقط من كل 60 شخصا يضطر إلى الذهاب لقسم الطوارئ، لأنه لم يتمكن من الحصول على موعد لدى طبيب الحي"، أي ما يعادل 1.6 في المائة فقط من إجمالي الحالات؛ هذه نسبة متدنية، وربما تكون الأسباب عائدة لحالات فردية لا يصح تعميمها. تجدر الإشارة إلى أن تلك العبارة تخص الواقع الصحي في إنجلترا، محلياً طبيب الحي لا يزال غير موجود بطريقة فاعلة.
يذكر التقرير نفسه الذي اقتبست منه العبارة أعلاه بأن هذه النسبة البسيطة يمكن ترجمتها إلى ستة ملايين زيارة سنوياً، وهذا يجعل القضية أكبر بكثير من التلميح بأنه مجرد شذوذ عن القاعدة بنسبة 1.6 في المائة. يتساءل التقرير عن تكلفة ستة ملايين زيارة لأقسام الطوارئ ــــ مقارنة بالميزانيات المرصودة لأطباء الحي ـــــ وعن السبب الحقيقي لذلك، هل هو نقص في الكفاءة أو الثقة، على الرغم من وجود التقنية الحديثة لإدارة المواعيد وتقييم الأطباء؟ الشاهد أن تحليل السبب والأثر هو ما يصنع المعنى للحقيقة التي نراها، دون ذلك تظل الحقيقة غير مكتملة، وقد تستخدم في غير محلها.
ولأن البعض يرى في الأرقام أقصر الطرق إلى الموضوعية فهذا يدعو الآخرين إلى استخدامها بطريقة مخادعة، خصوصاً حين يتم استغلالها لتفضيل وجهة نظر على أخرى بحشر النسب والكميات، ولو لم تضِف إلى المعنى بطريقة واضحة ومنطقية. فِهم الحوافز والفرص الموجودة لدى "عارض" المعلومة مهم كفهم المعلومة نفسها.
يستخدم كثيرون مصطلح "حالة فردية" للتقليل من أثر الحدث أو القضية، على الرغم من أن الحالات الفردية تقدم من الناحية العلمية نموذجا معتبرا لدراسة الواقع من جوانبه المختلفة. بالبحث فيما تتناقله الأخبار نجد أن مصطلح "حالة فردية" يستخدم للإشارة إلى أن الحالة منفردة ــــ أي إشارة إلى عدد مرات التكرار ــــ أو إلى أن الحالة مستقلة وتتطلب تحليلاً مستقلا أو تقليلاً من شأنها وأثرها، والاستخدام الأخير متكرر خصوصاً في تصريحات المسؤولين؛ الأخبار المحلية تعج بالأمثلة، فتمزيق الكتب والموظف الراقص وإدمان الدارسين وحتى زيادة أسعار الفواكه كانت كلها مجرد حالات فردية! تظل كل حالة مسألة مهمة تحتمل الكثير من الخطر حتى يُثبت العكس، ومثل ذلك كل رقم ــــ يمثل جزءا من الحقيقة ــــ وكل قضية لا تزال بلا أرقام.
استخدام مصطلح "ظاهرة" يخضع للخلل نفسه الذي يواجهه مصطلح "حالة فردية" ولكن بطريقة معاكسة. كثيراً ما يقال إن "الأمر أصبح ظاهرة" إشارة إلى التغيير في مدى انتشار هذا الفعل أو السلوك، على الرغم من عدم وجود مرجعية واضحة للنسبة التي يتحول الأمر عندها إلى ظاهرة، وكيف نحسم أهمية هذا التغيير فعلياً.
نستخدم أحيانا عبارات مثل "نسبة مؤثرة" و"ظاهرة أكيدة"، وعلى النقيض من ذلك نقول "حالة شاذة، لا تشكل ظاهرة" حيث نعتمد في إطلاق مثل هذه الأحكام على الظاهر الكمي للحقيقة، مستخدمين مرجعية بسيطة وبدائية، فالنسبة الكبيرة مؤثرة ومهمة والنسبة الصغيرة غير مؤثرة وهامشية. تختلف الأمور كثيرا في الواقع، حيث لا يصح حسمها بمجرد النظر إلى النسب مباشرة، بل يجب أن ننظر كذلك خلف هذه الأرقام كمسبباتها وآثارها حتى نستوعب الصورة كاملة، ويجب كذلك أن نمزج هذه التقديرات الرقمية المقتضبة بما يساندها من حقائق أخرى قد لا تكون بذات الموضوعية والدقة، غير أنها مهمة ومحورية.
من الطبيعي أن يفتقد استخدام هذه المصطلحات خارج الإطار العلمي لكثير من الدقة، غير أن رواجها بما يعاكس الحقيقة يستوجب الحذر والتوقف. المشكلة الكبرى تحدث عندما يتم اعتمادها في تقارير أو تصاريح رسمية في تدنٍ واضح للمهنية، لينعكس مباشرة على طبيعة الفهم الذي ينتج لنا ويؤثر بلا شك على النتائج التي يصنعها سوء الفهم هذا. من غير المنطق أن ننتظر تحول الحالة الفردية إلى ظاهرة لتصبح مهمة، ومثله إرجاع الظاهرة إلى حالة فردية لنقول إننا عالجناها!
يتيح الإنترنت اليوم مكتبات كاملة غنية بشتى أنواع المعارف التي تساعدنا على تمحيص كل ادعاء ورقم وتصريح يخرج لنا. لا يجب أن يتعلم الجميع مهارات البحث العلمي، ولكن التأكد من موضوعية المعلومة وأبعادها المؤثرة أصبح أسهل كثيراً والقيام به ضرورة، على الأقل، قبل أن نتسرع بالحكم على مصائرنا ومصائر الآخرين.