لعبة الأمم .. من يحرك قطع الشطرنج؟

المتابع لما يحدث من نزاعات سياسية وصراعات عسكرية في المنطقة، يرى أنها تسير وفق نمط واتجاه معين، وأنها لا تحدث عبثا، وإنما يمكن استشفاف أن الأحداث تتتابع وفق منهجية وتوجه لقوى دولية يراد من خلالها السيطرة والتحكم في دول المنطقة دون استثناء ورسم توازنات وتحالفات جيوسياسية تتجه نحو رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، وهو أمر لم يعد خافيا، فالتحليلات والسيناريوهات المتداولة في أروقة مراكز صنع القرار في الغرب تُفصح عن ذلك، بل إنها أصبحت معلنة في تقارير وتعليقات المحللين ويتم تناقلها على صفحات الإنترنت. وقد يرى البعض أن هذا تبسيط لواقع معقد تتداخل فيه جوانب سياسية واقتصادية ومذهبية وعرقية، وأنه لا يمكن الاعتماد على نظرية المؤامرة في تفسير ما يجري في المنطقة، لكن الأمور لم تعد تحتمل الشك، فقد أصبحت واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار. فهذه الولايات المتحدة كمحتكر لصناعة القرار الدولي إلى حد كبير، قد وجدت في إيران وأتباعها وتوجههم الطائفي ضالتها في تنفيذ أجندتها من خلال تطبيق مبدأ استعماري قديم ثبت أنه ما زال صالحا للاستخدام، وهو مبدأ "فرق تسد". والدليل على ذلك ميل الولايات المتحدة إلى إثارة وتعزيز الصراع الطائفي في المنطقة من خلال خلقها قوة شيعية عدائية، فقد قامت باحتلال العراق وتسليمه لإيران الطائفية التي يحكمها المعممون. ويتأكد هذا التوجه في ظل الأحداث الأخيرة التي يشهدها العراق بتأييدها للمالكي الذي أغفل المكون السني، بل إنه لم يحسن إدارة الاختلاف كرجل دولة يفترض أن يقف على مسافة واحدة من جميع العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية وأصولهم العرقية. لقد أخطأ المالكي على وجه الخصوص والنظام العراقي الجديد بشكل عام في تهميش وظلم السنة سياسيا وسلب حقوقهم والتعدي على أعراضهم وتهجيرهم. هذه التصرفات العدائية من قبل المالكي على السنة كمكون رئيس وشريك أساسي واضحة ولا يمكن القول إنها كانت غائبة عن متخذ القرار الأمريكي، بل إن ما يجري في العراق منذ احتلاله في عام 2003م يشكل خرقا للقيم الديموقراطية الأمريكية التي جاءت تبشر بها الولايات المتحدة، ومع ذلك نجد أنها؛ أي الولايات المتحدة، تتخذ مواقف متناقضة حول ما يجري في المنطقة، فبينما تقف متفرجة على ما يتعرض له الشعب السوري من قتل ودمار وتهجير وقمع لثلاث سنوات على التوالي، تسارع في إرسال خبراء عسكريين لدعم المالكي في مواجهة انتفاضة السنة في أقل من أسبوعين. ودعم المالكي يعني دعم سياساته الطائفية التي تؤجج نار الفتنة، وتجعل العراق ساحة مفتوحة على مصراعيها للاقتتال الطائفي. هكذا يبدو جليا أن الولايات المتحدة تطبق قيم الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في المنطقة بطريقة انتقائية والكيل بمكيالين. ففرق الموت الشيعية التي تدعو لها المرجعيات تسميها الولايات المتحدة جيش شعبي للدفاع عن النفس، بينما تسمي انتفاضة السنة ضد الظلم والجور إرهابا، ولذا فإن التساؤل لم يعد حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تقف بجانب الشيعة وتدعمهم ضد السنة، فهذا أمر أصبح واضحا ومحسوما، ولكن التساؤل الأهم، لماذا؟! في الإجابة عن هذا التساؤل تكمن التوجهات الاستراتيجية للولايات المتحدة لتشكيل المنطقة. وهنا يمكن استحضار ما طرحه مايلز كوبلاند أحد رجال المباحث في وكالة الاستخبارات الأمريكية في كتابه "لعبة الأمم" الذي نشر عام 1970م، حيث ينطلق من نظرية مفادها أن كل الدول يتم تحريكها بواسطة قوى دولية، وكأنما هي قطع شطرنج يتم تحريكها وفقاً لأجندات وخطط وموازنات للقوى. ويستعرض الكتاب تأثير الولايات المتحدة والدور الذي لعبته في مصر قبل وأثناء وبعد ثورة 1952م، وكيف أن معظم الأحداث التي جرت كانت بتخطيط وتدبير من قبل وكالات الاستخبارات الأمريكية.
ولأن السياسة لا تخضع للحب والكراهية وإنما للمصالح، فلا تثريب على الولايات المتحدة فيما تقوم به من السعي لتحقيق مصالحها، وإذا كان هناك من عيب فهو في نقضها للقيم التي تنادي بها. وتتحدد المصالح بين الدول بمقدار ما تمتلكه من قوة سياسية واقتصادية وعسكرية، إذ إن قوة العلاقة وضعفها مسألة نسبية تخضع لمقدار المنافع المتبادلة، فمقدار الاستفادة التي يتحصل عليها كل طرف من الآخر تحدد قوة واتجاه العلاقة والعكس صحيح. ولذا يكون من الخطأ انتظار الطرف الآخر للقيام بالمبادرة أو الاعتقاد أن حسن النوايا وربما تقديم التنازلات يعزز العلاقة ولكن على العكس تماما. فالعلاقات السياسية يمكن مقاربتها بالقانون الفيزيائي في أن أي فراغ لا بد أن يملأ. فالأوضاع السياسية هي نتيجة لتوازن القوى وللانتقال إلى وضع جديد يحقق مكاسب أكبر يتعين على كل طرف في اللعبة السياسية السعي في تقوية مركزه التفاوضي على الدوام وعدم الاستكانة لوضع بعينه. وهذا يتطلب بشكل مستمر التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، والعمل على تهيئة الظروف المواتية التي تمكن من تقوية الموقف التفاوضي والحصول على مكاسب أكبر، والسيطرة والتحكم في الوضع. وسيكون من الخطأ والخطر مكوث أي دولة في منطقة الراحة والاعتقاد باستدامة الأوضاع وعدم رؤية التغيرات التراكمية التدريجية وتوجهاتها ومآلاتها. من أجل ذلك تقوم الدول المتقدمة باستباق الأحداث بل صناعتها ووضع قوانين اللعبة التي تضمن احتواء وتوجيه الأحداث لصالحها وليس الاعتماد على ردات فعل آنية. إن اختلاق الأزمات أحد أهم الأساليب في التحكم والسيطرة؛ لأنها تجعل الطرف الآخر في وضع حرج محدود الخيارات والوقت وحربا الخليج الأولى والثانية وما يجري في العراق وسورية اليوم شاهد على ذلك. وبنظرة فاحصة على المشهد المتأزم في المنطقة نجد أن الرابحين هم إسرائيل وإيران والولايات المتحدة، فهناك تضامن فيما بينها، وهم منخرطون في لعبة تقاسم الأدوار. ولمواجهة هذه اللعبة السياسية يتحتم عمل استباقي يعزز اللحمة الوطنية والتمسك بالثوابت الوطنية، فهي مدار قوتنا التفاوضية ومنطلق تعاملنا مع الأحداث من حولنا، ومن ثم القدرة على تحريك قطع الشطرنج لصالحنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي