صخرة الاستقرار الداخلي

نحمد الله جميعا في هذا الجزء الأغلى من العالم على قلب كل من ينتمي إليه، أن من رب الأرباب عليه بنعمة الأمن والاستقرار ورغد العيش، تلك النعمة التي ما نزعها الله من بلد إلا رأى بعدها ويلات انعدام الأمن، وعبث الحروب المدمرة "وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون" سورة النحل الآيتان 112-113، ونسأله جلت قدرته أن يحفظ بلادنا وأهلها، وأن يديم عليها تلك النعم التي لا تعد ولا تحصى، وإنا لوجهه الكريم حامدون شاكرون ما بقيت نفس منا تتنفس الحياة.
ذلك هو السر المستقر في داخل كل من ينتمي لهذه البلاد، الذي شكل باجتماعه المتين "صخرة الاستقرار الداخلي" للوطن والمجتمع على حد سواء، وربط على قلب الحاكم والمحكوم، فلا عجب أن ترى أمواج الفتن والقلاقل تتحطم عند سور سدها المنيع بفضل الله. هو السر ذاته الذي كان وما زال منذ تأسست هذه الدولة - أيدها الله - على أيادي رجالها الأوائل بقيادة المؤسس العظيم - تغمدهم الله جميعا بواسع رحمته - كان حمدا لله وشكرا له على السراء والضراء، قبل أن يطفو النفط بمداخيله الهائلة على السطح، حتى بعد أنْ أصبح ترياق حياة شعوب العالم قاطبة، هو ذاته الإنسان السعودي الوارث لخصائل العرب الأصيلة، وقبلها عقيدة أهل السنّة والجماعة.
لست آتيا بجديد وأنا أكتبُ هذا المقال، إلا أنني أذكر فيه إخوتي وأخواتي في سن الشباب، الذين قد يكون أغلبهم لم يطلع بشكل كاف على تفاصيل تلك المراحل المهمّة من تاريخ بلاده ومجتمعه. وأن ما نشهده اليوم من واقع بعيد عما يجري حولنا من تقلبات وعواصف، ليس بالأمر الجديد على بلادنا، فقد سبقته فصول مماثلة في مراحل سابقة، كانت فيه بلادنا أقل مالا وعدة وعتادا، مرت عواصفها - بحمد الله - وانتهت دون أن تنال من استقرارنا أو وحدتنا، بل زادت في خواتمها من قوتنا واتحادنا، بل لقد تغيرت رأسا على عقب كثير من الكيانات حولنا، في الوقت الذي مضت فيه بلادنا تتقدم رغم كل التحديات المتعاقبة والمتغيرة، لم يزدها كل ذلك إلا مزيدا من المناعة والقوة كما نشهده اليوم.
وكأي بلد نام يشهد حراكا تنمويا متسارع الخطى، لا بد أنه كما يحقق نجاحات وخطوات متقدمة، أنْ يطرأ بعض أوجه القصور، والشجاعة الحقيقية أن تعترف بها وتواجهها علنا، وهو ما حدث ويحدث في وقتنا الراهن، في الوقت الذي قد تواجه بعض البلدان من حولنا التحديات ذاتها أو أكبر منها، لكنه أمامها جزوع خنوع، فلا يجرأ كائن من كان على أن يتطرق لها ولو بتغريدة على صفحات التواصل الاجتماعي، دع عنك أن يظهر ليتحدث أو يكتب عنها عبر وسائل الإعلام المرئية أو المقروءة. إن من يلمس هذا الفارق الكبير جداً بين الحراك الفكري والحضاري لدينا، وبين ما يجري لدى من حولنا، سيدرك تماما أي صلابة تمرست عليها بلادنا ومجتمعها في مواجهة تحدياتها، وأنه لم يزدها إلا قوة ومناعة ضد فيروسات التصدع، فيما قد ترى بلدانا حولك يزلزل استقرارها مقال أو قصيدة من أعلى قمّة رأسها إلى أخمص قدميها.
لا يعني أبدا أن بلدا ما، لا يثير مشاكله وهموم مجتمعه وأفراده عبر وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، أنه خال من تلك التحديات والتشوهات، بل قد تجدها تحت الرماد أكبر وأخطر مما يسوق له على سطح الطاولة، وهو ما يؤذن بخطر قد يكون صاحب الضربة القاضية إن عبر عنفوانه فجأة إلى السطح! ولا يعني أبدا أن بلدا كبلادنا، رفعت سقف الحرية الإعلامية ليقول أفراده كلمة النقد الهادفة وفق الضوابط النظامية، إلا أنها فقط امتلكت الشجاعة الكافية لمواجهة مشكلاتها وتحدياتها الداخلية بكل اقتدار، فلا يوجد لديها ما يختبئ تحت السطح، ولا يوجد لديها ما تتحفظ عليه خوفا من أي طارئ، لهذا تشاهد بصورة مستمرة فصول الجدال والحوار الحضاري ساعة بساعة عبر مختلف وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة، ما أثمر في كثير من مقاماته وجولاته عن صدور العديد من القرارات الإصلاحية، وأثبتت وتثبت التجرية حتى تاريخه أنّها كانت واحدة من أفضل الخيارات الحضارية التي ارتضتها لنفسها هذه البلاد قادة ومجتمعا على حد سواء، وأنها خطوة سيستقر فهمها كاملاً بكل إيجابياتها غير المحدودة في ذهن كل فرد منا يوما بعد يوم، وأنها أصبحت واحدة من أهم المكتسبات التي تحققت لنا، في الوقت الذي لا يزال العديد من حولنا يقبع في عصر النعامة التي لا تزال تدس رأسها في الرمل خوفا من أن ترى واقعها المزيف.
على كل من ينظر من خارج حدودنا إلى داخلنا بعين نعامة تربى وترعرع عليها، إدراك أن ما يفسّره خطأ وفق تصوراته القاصرة والمحدودة، أنه ليس إلا حراكا حضاريا متقدّما تعلو قاعدته كثيرا على سقف فهمه وتفكيره، وأنه ليس صراعا ساذجا كما يهمس به قرينه السيئ في أُذنيه، وأنه حراك يحقق سرعة التوازن والتكيّف مع مستجدات العصر، فترى بعدئذ وتيرة الحياة تمضي وتتقدم بكل ثقة وعزم، وأن من سيرفع رأسه ذات يوم إن تجرأ ورفعها، ليرى ما حوله بعد طول عهد بغمسها في حفرة السكون والهروب؛ سيصدم صدمة قد يكون فيها هلاكه.
تسير بلادنا وأهلها - بحمد الله - في الطريق الصحيح، ويوما بعد يوم نحصد ثمرات البناء والتطوير والإصلاح والضرب على أيادي الفساد والإرهاب، وننظر جميعا إلى الغد القريب والبعيد بعين كلها إيمان بالله العلي القدير، ثم بثقة بتوفيق رجال ونساء هذه البلاد للتقدم بها نحو الأفضل، لا يأس ولا قنوط تراهما يتسرّبان إلى الأنفس، إلا من أُسقط في يد الشيطان، فسيسقط غير مأسوف عليه. رحلة وطنية تحمل في سفينتها العملاقة أعظم قصة يتمناها أي إنسان مؤمن بوطنه وأحلامه، رحلة لا تتكرر إلا في الأوطان الناهضة والمتقدمة وما أكثرها في حياة الأمم، ولن يعجز إنسان هذه البلاد العظيمة أن يكررها، بل يحقق درجة تفوّق يشهد لها التاريخ الإنساني، ويوثقها في سجلاته الخالدة. حفظ الله بلادنا وحكامها وأهلها، ووفقها لتحقيق المزيد من التقدّم والنهضة، والمساهمة الفاعلة في بناء الحضارة العالمية. والله ولي التوفيق.

المزيد من الرأي