القيم وليست الأهواء التي تصنع مجتمع الفضيلة
لا يمكن التعاطي مع الأوضاع والقضايا والتحديات التي تواجهها البلاد خارج إطار قيمي محدد ومشترك، وإلا أصبحت فوضى تسمح بتبادل الاتهامات والتشكيك في الذمم وفتح المجال على مصراعيه للصراعات والنيل من بعضنا البعض وحتى التطاول على من هم خارج حدود الوطن.
هذه المزايدة على الوطن والتناحر الفكري والخروج عن المشترك والاصطفاف والتخندق والتحزب يزيد من شقة الخلاف ويمزق المجتمع، وهو أمر بلا شك خطير لا يمكن السكوت عنه. إن مواجهة التحديات تتطلب في المقام الأول تعزيز القيم والثوابت الوطنية وأن يكون الفعل والنشاط الاجتماعي للأفراد والمؤسسات منسجما وداخل المشترك الوطني. إن التمسك بالقيم والثوابت الوطنية شرط أساسي في تقوية الجبهة الداخلية التي هي الحصن الحصين ومصدر قوتنا بعون الله في التصدي للمتربصين من أعدائنا في الداخل والخارج.
إن السعودية بإرثها الثقافي وعقيدتها الراسخة ونظامها السياسي الذي يمتد لما يقارب ثلاثة قرون ومركزها القيادي في العالم الإسلامي وتأثيرها الدولي، تستلزم من الأفراد والمؤسسات والمسؤولين التصرف في دائرة تلك الثقافة المميزة والهوية الوطنية التي تتصف بالحكمة والتؤدة وعدم التدخل في شؤون الآخرين والتعريض بأخطائهم وجميع ذلك منطلقه الحكم بالشريعة والعدل بها. التمسك بالثقافة الإسلامية والحفاظ على التقاليد والعادات العربية الأصيلة هو ما يجعل السعودية في مكانة عالية تتحلى بالمثالية، والسبب ذاته يجعلها دائما بارزة متميزة في دائرة النقد والانتقاد وتصيد اخطائها. حتى أنه أصبح في مفهوم العالم العربي والإسلامي يمكن قبول الأخطاء من الآخرين لكن ليس السعودية. على سبيل المثال عندما عقد الفلسطينيون ــــ وهم أصحاب القضية ــــ صلحهم مع إسرائيل لم يتهم أحد وطنيتهم ولم يقل أحد إنهم باعوا القضية في المقابل أجزم لو أشيع باطلا كذبا وبهتانا أن مسؤولا سعوديا التقى مسؤولا إسرائيليا لانهالت الاتهامات والشتائم والافتراءات والأكاذيب من الأفراد قبل المؤسسات في الوطن العربي على السعودية. وهذا دليل قاطع على الصورة الذهنية المثالية للسعودية في عقل المواطن العربي والمسلم حتى أنهم يتوقعون العبث والتنازل والمداهنة على حساب قضايا الوطن العربي من أي نظام عربي إلا السعودية تبقى في أذهانهم نقية صافية في شرعها وشريعتها وسياساتها وقيادتها وشعبها.
هذه الصورة المثالية تضاعف المسؤولية على السعوديين أفرادا ومؤسسات ومسؤولين في الحفاظ على السمة والثقافة المتميزة للسعودية. وهي لا تعني بأي حال من الأحوال أن ننظر للآخرين بنظرة فوقية متعالية، بل على العكس تماما لا بد أن تكون لدينا القدرة على قيادة وجذب الآخرين للمنهج الصحيح وهذا يتطلب انتهاج سياسة الاحتواء والتوجيه في دائرة الحكمة السعودية. هناك من يرى أن هذه المثالية تمنحنا حق احتقار الآخرين، ولكن ذلك يعتبر انتكاسة في مفهوم المثالية وعمل يتعارض مع جوهر الثقافة السعودية الطهورية التي تعمل الخير بصمت وتنشره في أرجاء المعمورة وتبشر ولا تنفر وتجمع ولا تفرق وتساعد ولا تذل. البعض يأخذه الحماس العاطفي فيسفه ويقلل من عمل الآخر ظنا أن هذا يجعله يدافع وينافح عن السعودية. ومتى كانت السعودية في موقع الدفاع؟ ومتى كانت تتدخل في شؤون الغير؟ ومتى كان خطابها تشنجيا؟ إن هذا النوع من الخطاب الإسفافي يقلل من شأن السعودية ويحط من قدرها لأن السعودية تعف عن الدخول في مهاترات والتراشق الإعلامي، فهى أعلى وأجل وأحكم من تنجرف إلى السقوط في وحل الضياع الأخلاقي ودائرة السب والشتم الذي غرقت فيه بعض الأنظمة. ولذا فإن تجريح الآخر هو خروج عن النص ويخالف الإطار الأخلاقي والسياسي للسعودية.
إن قدرنا - نحن السعوديين- قيادة العالم الإسلامي وهذا يؤكد أهمية المثالية وتجسيد القيم والمبادئ في تعاملنا مع الآخر خاصة دول العالم الإسلامي. إن مركزنا القيادي يحتم علينا أفرادا ومؤسسات ومسؤولين أن نلتزم الخط السياسي المتزن والخطاب المعتدل والمنهج الوسطي وأن نكون على مسافة واحدة من الجميع. إن إيجاد الأعداء أسهل وأسرع وأبسط من إيجاد الأصدقاء لأن الأول فيه هدم والثاني بناء، والبناء يتطلب جهدا وبذلا وتحملا وصبرا وفكرا وتوجيها ووقتا. ومن السفاهة السياسية أن نشوش على العلاقة مع الدول ذات البعد الاستراتيجي في المنطقة وتربطنا بها مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية بحديث عابر أو مقال صحافي أو تصريح إعلامي يضر ولا ينفع.
ستظل الحكمة السعودية في التعامل مع المتغيرات والمستجدات أنموذجا للسياسات الفاعلة العادلة والمنصفة، منطلقة من قيم الشريعة الراقية والإرث الحضاري والخبرة السياسية الثرية والتجربة العميقة التي تضرب جذورها في عمق التاريخ. إنها المدرسة السعودية التي تبنت منهجا فكريا وعقائديا وسطيا ونظاما سياسيا عفيفا يترفع عن صغائر الأمور ويتجاوزها من أجل تحقيق المصالح الكبرى للأمة. هذا الحديث ليس إطراء أو مدحا، ولكن للتذكير ليتعزز في وعي وذاكرة ووجدان كل سعودي مسؤولا كبيرا كان أو مواطنا بسيطا وليدركوا حقيقة الهوية الوطنية ويلتفوا حولها ويعملوا ويتعاملوا من خلالها لتزيدهم لحمة وقوة وفي الوقت ذاته قدرة على قيادة الآخرين واحتوائهم. إنها قوة القيم التي تميز المجتمعات بعضها عن بعض. وما يميز منظومة القيم السعودية إنها تجمع بين الأصالة والمعاصرة وتتبنى لغة الحوار والنقاش الهادئ المتزن وتبتعد عن الخطاب العاطفي المتشنج لأنها تؤمن بالعمل الجاد والمفيد وأنه لا يصح إلا الصحيح. هكذا تقترب وتسعى السعودية إلى مجتمع الفضيلة بالقيم الراسخة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء وليس بالأهواء والحماس العاطفي وردود الأفعال الآنية السريعة غير المحسوبة. إن تميزنا القيمي استحقاق وطني يجب الحفاظ عليه لأنه مصدر كينونتنا وسر تميزنا وأساس هويتنا ولا يحق التعرض له أو تشويهه أو الانتقاص منه بتصرفات فردية شاذة لا تنسجم معه.