فوائض الخليج.. ضمان استراتيجي
شكلت الفوائض الضخمة في ميزانيات غالبية دول مجلس التعاون الخليجي المحرك الأقوى لمخططات التنمية الكبرى التي تجري على الساحة منذ عدة سنوات، والتي وضعت ضمن إطار زمني يزيد على عقدين. فارتفاع عوائد النفط في السنوات الماضية، ساهم "ويساهم" في تعزيز هذه الفوائض، وفي التوسع التنموي الذي شمل كل القطاعات، بما في ذلك البنى التحتية، وتطوير مخرجات الطاقة الراهنة، والانطلاق في مسيرة التصنيع، إضافة طبعاً إلى دعم التعليم وفق أسس متطورة، تحاكي الاحتياجات الحقيقية لهذه الدول على المدى البعيد. إلى جانب القطاعات التي تختص بالخدمات محلياً وإقليمياً ودولياً. وحددت غالبية دول المجلس عام 2030 حدا أقصى لتحقيق أهداف الاستراتيجية التنموية. بل إن نسبة من هذه الفوائض رصدت من أجل محاكاة التطورات المتلاحقة التي تجري على صعيد بدائل الطاقة.
وتستحوذ السعودية على النسبة الأكبر من هذه الفوائض، نظراً لحجم إنتاجها الكبير مقارنة ببقية دول الخليج، وإن كانت حصة الفرد في المملكة هي الأقل، لأسباب معروفة، تتعلق بالكثافة السكانية الكبيرة. ففي حين يبلغ عدد السكان في المملكة أكثر من 30 مليون نسمة، فإنه في قطر لا يتعدى 1.9 مليون نسمة. ومن الطبيعي أن تقل حصة الفرد، كلما ازداد عدد السكان في الدولة التي يعيش فيها. ولهذا السبب احتل نصيب الفرد في قطر المرتبة الأولى من الدخل المحلي، بينما حل نصيب الفرد السعودي رابعاً. وفي كل الأحوال، تشكل هذه الفوائض قيمة وطنية استراتيجية. فلم تعد "كما كانت في السابق" فوائض للإنفاق فقط، بل أصبحت عوائد للتنمية المستدامة، تحاكي كثيرا من الاستحقاقات، وفي مقدمتها ارتفاع عدد السكان، وما يفرضه هذا الارتفاع من واقع.
ولعل من أهم عوائد هذه الفوائض، أن جانباً منها يصل في بعض الدول إلى النصف تقريباً، يرصد للاستثمارات الخارجية. وهذه الاستثمارات أثبتت في السنوات الماضية جدواها، فحتى مخططات التنمية الكبرى في بلدان الخليج، لا يمكن أن تستوعب الفوائض كلها. وعلى الرغم من أن الكويت أسرعت مبكراً في هذا الاتجاه، إلا أن بقية الدول سرعان ما لحقت بها، من خلال سلسلة هائلة من الاستثمارات في الدول الغربية وغيرها. وهي استثمارات أيضاً متنوعة، تشمل مشاريع البنى التحتية والتجارة والصناعة والمصارف، والإسكان وحتى محال بيع التجزئة. إلى جانب العقارات التي حققت في السنوات القليلة الماضية، قفزات كبيرة في بعض الدول الغربية كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وكل هذا يدخل ضمن إطار استراتيجية أخرى اعتمدتها دول الخليج وهي تنويع مصادر الدخل.
ليس هناك ضمانات على بقاء أسعار النفط والغاز عند مستوياتها الراهنة. فهذه الأسعار بالتحديد شديدة الحساسية من كل شيء وأي شيء. ومع مشاريع الطاقة البديلة، وما أصبح يعرف بالغاز الصخري، فإن إمكانية انخفاض أسعار النفط واردة، خصوصاً إذا ما حققت المشاريع المشار إليها قفزات حقيقية لا وهمية. يضاف إلى ذلك، أن الطلب على النفط مرتبط بالحراك الاقتصادي الدولي الذي لا يزال مضطرباً، منذ الأزمة الاقتصادية العالمية. وهناك مؤشرات واضحة على تراجع النمو في عديد من البلدان التي اتصفت بالنمو السريع والمرتفع. لهذه الأسباب وغيرها، بات تنويع مصادر الدخل حاجة استراتيجية، وليس حالة آنية. واستثمار فوائض الميزانيات يحقق كثيرا من الأهداف، ويضع اقتصادات الخليج في المسار الصحيح، بل الضروري.
إن أهم شيء حالياً أمام دول مجلس التعاون الخليجي، أن تسير في اتجاهين بصورة واقعية وناجحة. الأولى المضي قدما في تحقيق أهداف الاستراتيجيات التنموية التي أطلقت في كل البلدان. والثانية السير في الاستثمارات الخارجية بأعلى مستوى من جودة الإدارة. وبدون هذه الجودة، ستكون الفوائض المستثمرة خارجيا في عين الخطر، ولا سيما في ظل اقتصاد عالمي لا يزال يبحث عن صيغة للاستقرار.