شعب مثالي أم قصور في التطبيق؟

أقولها بكل تجرد وصراحة إني لا أعتقد أبدا أننا شعب مثالي، خصوصا عندما تكون المسألة مرتبطة بالمال، وبالذات عندما تكون هناك فجوة تنظيمية واسعة يمكن استغلالها لتحقيق أرباح طائلة من قبل أعضاء مجالس الإدارات والتنفيذيين ومن لهم علاقة نافذة في أي من الشركات المدرجة. لا يكفي تذكير هيئة السوق المالية قبيل نهاية كل فصل مالي بحظر تعاملات أعضاء مجالس الإدارات وكبار التنفيذيين في الأسبوعين ما قبل نهاية الفصل إلى تاريخ إعلان البيانات المالية. هل التداول لهؤلاء النافذين خال من المساءلة إن تم قبل أكثر من أسبوعين من نهاية الفصل المالي؟ يبدو كذلك، ويبدو أن هناك افتراضا بأن المعلومات المتعلقة بالنتائج المالية لا تأخذ أهمية إلا قبل أسبوعين فقط من نهاية الفصل المالي! ألا يمكن لمن لهم علاقة داخلية بالشركة معرفة حجم المبيعات ومقدار الربح والخسارة قبل نهاية الفصل بفترة طويلة؟ في بعض الشركات من الممكن معرفة ما ستؤول إليه المبيعات والأرباح من بداية الفصل، فهل من متابعة لتداول هؤلاء الأشخاص قبل فترة الحظر؟ المسألة أكبر من حظر التداول لفترة معينة، بل تتعداها لتشمل جميع الأوقات، وجميع أعضاء مجالس الإدارات، وجميع العاملين في الشركة، بل تتجاوز كل هؤلاء وتصل إلى أقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم، وهذا ما يتم في الأسواق الدولية، كون المسألة حساسة جدا وتتطلب جهودا كبيرة وتطبيقا صارما للأنظمة. إنها جريمة التداول المبني على معلومات داخلية.
إن سوقا مالية بحجم سوق الأسهم السعودية، بتداولات تتجاوز عشرة مليارات ريال يوميا، وفي ظل حوكمة ضعيفة للشركات، وبحكم طبيعة العلاقات الاجتماعية السعودية وثقافة الواسطة والتزكية و"الفزعة" لقريب أو صديق، لن تخلو هذه السوق المالية أبدا من تجاوزات خطيرة بحق المعلومات الداخلية واستغلالها لتحقيق أرباح غير مستحقة وغير شرعية وغير عادلة. كيف لا والعملية في غاية السهولة، ويمكن أن يقوم بها أي عضو في مجلس الإدارة أو أحد كبار التنفيذيين ممن لهم إطلاع عميق على سير أعمال الشركة؛ ممن تتوافر لديهم في أي وقت من الأوقات معلومات في غاية الأهمية، سواء فيما يخص المبيعات والتنافس والقرارات الهيكلية والقضايا القانونية والفرص الاستراتيجية، أو غيرها. وليس بالضرورة أن يستغل الشخص النافذ تلك المعلومات لمصلحته الشخصية المالية، بل من الممكن تمرير المعلومة للآخرين بحسن نية أو بسوئها، بمقابل أو دون مقابل.
"المعلومات الداخلية" هي المعلومات غير المتوافرة لعموم الجمهور ولم يتم الإعلان عنها، والتي عندما يعلن عنها يكون لها تأثير جوهري في سعر السهم. لم نسمع كثيرا عن أشخاص تم ضبطهم بجريمة التداول المبني على معلومات داخلية، وإن كانت هناك حالات معلنة فلم أسمع عنها، حيث لم أجد إلا حالة واحدة بعقوبة تافهة، تمثلت باستعادة الأرباح من المجرم! هذه العقوبات - إن صحت تسميتها بذلك - مخالفة لأنظمة السوق المالية التي تنص في مادتها رقم 50 بعقوبات تصل إلى حد السجن ودفع غرامات باهظة. كما أن هذه "الأرباح" تعاد إلى حساب الهيئة، ناهيك عن كيفية تقدير حجم الأرباح بأي حال من الأحوال.
حقيقة نحن أمام أمرين لا ثالث لهما، إما إن المسؤولين في الشركات وأعضاء مجالس الإدارات والعاملين في الهيئة و"تداول" على قدر عال جدا من الأمانة والنزاهة وعدم أكل مال الغير بالباطل (وهو ما أتمناه وأدعو الله أن يكون كذلك)، وإما أن الجهة القائمة على السوق لم تأخذ هذا الموضوع بالجدية اللازمة أو أنها غير قادرة على ضبط هذا النوع من الجرائم. أمر عجيب حقا عندما تطالعنا هيئة السوق المالية بشكل شبه يومي بفرض عقوبات على الشركات المدرجة بسبب عدم الالتزام الحرفي بضوابط حوكمة الشركات وطريقة إعداد التقارير السنوية، بينما لا نسمع أي أخبار عمن يضخم أمواله وأموال معارفه باستخدام قوة المعلومات الواقعة تحت يديه أو الواصلة إلى مسمعيه!
قد يعود سبب تخاذل الهيئة في فرض النظام وتطبيقه إلى أسباب لا نعلمها، وقد تتذرع الهيئة بضعف الإمكانيات، على الرغم من ضخامة ميزانيتها السنوية وضخامة عدد العاملين فيها، وقد يكون السبب تخوف غير مبرر من قوة من يمارس هذه العمليات وسعة نفوذه، إلا أنه في نهاية المطاف لا يوجد عذر مقبول لترك الحبل على الغارب والتظاهر بعدم وجود مشكلة. ولا يكفي قيام الهيئة قبل عدة أشهر بإصدار خبر يؤكد أن "التداول بناء على معلومات داخلية في الشركات المدرجة في السوق المالية يعد عملا محظورا".
إن مشكلة هذا النوع من التداول المحظور أنه لا يمكن العلم به إن لم يكن هناك بحث وتقص ورصد دقيق ومكثف له. هذه الجرائم تؤخذ بشكل جدي في دول كثيرة، ودوما تعلن الحالات المخالفة ويشهر بأصحابها من باب التذكير بخطورتها، ومن أجل أن يُعرف أن هناك من يراقب ويتابع. فالخوف كل الخوف أن جمود الهيئة هذا قد يؤخذ من باب عدم الاهتمام أوعدم القدرة، ما قد يفاقم من حدة هذا النوع من الجرائم. من الطرق المتبعة في السيطرة على هذه الجريمة، متابعة تداول الأشخاص المعنيين قبل ظهور أي خبر جوهري وبعده، وعند الشك في إحدى الحالات تقوم الجهة القائمة على السوق برصد مكالمات الشخص والاطلاع على رسائله الهاتفية والإلكترونية وتحليل تداولات من اجتمع بهم أو حادثهم أثناء الفترة المشبوهة. كما أن إعلان الحالات المدانة مع شدة العقوبة وإبراز دور الجهة القائمة بشكل مستمر من شأنه أن يزرع الخوف في قلوب من تقع بين يديه معلومات مهمة لم تعلن لعامة الناس بعد.
غير أن أهم عملية لمكافحة التداول المبني على معلومات داخلية تتمثل في إلزام جميع من لهم صلة داخلية بالشركة بإعلان جميع تداولاتهم من بيع وشراء فور قيامهم بذلك، والهدف من هذه التنظيم أن إعلان عمليات التداول - بغض النظر عن أسبابها - من شأنه الرفع بمستوى الشفافية ونزع غطاء السرية عن هذه التداولات، كما أنه يتيح للجميع، من أفراد ومحللين ومتابعين، إمكانية الاطلاع على نشاط من لهم صلة بالشركة ويرفع من مستوى المراقبة والتحليل والمساءلة، ويجعل من له صلة بالشركة في حذر دائم وخوف من المساءلة. كمثال على جدية هيئة السوق المالية الأمريكية في تعقب هذه الجرائم، هناك المئات من حالات الاستجواب التي تتم سنويا، ويتراوح عدد القضايا التي يُبت فيها سنويا ما بين 40 إلى 60 حالة، بعقوبات مالية متنوعة وسجن لعدة سنوات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي