الاقتصاد اليوم .. مفاهيم متضاربة
تشكل التوترات التي تشهدها الأسواق الناشئة منذ قرابة عام، وزادت وتيرتها في الأشهر الأولى من العام الجاري، أزمة حقيقية؛ ليس فقط على صعيد تعافي الاقتصاد العالمي، الذي باتت جزءاً أصيلاً مهماً فيه، بل أيضاً في مجال الوصول إلى صيغ اقتصادية وطنية في هذه الدول، تمكنها من تقليل التأثر السلبي في أي خطوات اقتصادية تتخذ على الساحة الغربية. ورغم التفاؤل الذي يبديه المسؤولون في المؤسسات الاقتصادية الدولية من الانتعاش الاقتصادي العالمي القادم، إلا أنهم كثيراً ما يربطون تفاؤلهم بالحذر والتحذير من مغبة أي تباطؤ (مهما كان طفيفاً) للأداء الاقتصادي بشكل عام. بل إن بعض كبار المسؤولين في هذه المؤسسات، يعيدون النظر في تقديراتهم للنمو كل فترة، بما في ذلك المتعلق باقتصادات مؤثرة كالصيني. ففي الأسابيع الماضية، حبس العالم أنفاسه من مغبة انفجار أزمة يصعب السيطرة عليها، من جرّاء الاضطراب الذي ساد الأسواق الناشئة.
هناك خلاف حقيقي بات يهدّد الحراك الاقتصادي العالمي، الذي لا يزال في مرحلة التعافي، وأمامه سنوات ليصل إلى حالة الازدهار أو إلى مستوى النمو المستدام المطلوب. هذا الخلاف بين الغرب والدول الناشئة يتعلق بمفهوم سياسات التسيير الكمي عند الطرفين. ففي حين تعتد أغلبية الأسواق الناشئة على هذه السياسة الأمريكية، ترى الإدارة الأمريكية أنه لا بد من حدوث تغييرات واضحة في هذا المفهوم. فهي تعتمد منذ أشهر خطط تقييد التسيير الكمي، بهدف الوصول إلى مرحلة يمكنها أن تلغيه نهائياً. وأعلنت ذلك صراحة في أكثر من مناسبة، ولا سيما في أعقاب وصول رئيسة جديدة للاحتياطي الفيدرالي. وهذا يسبب ضربات موجعة لعديد من الأسواق الناشئة، التي تسعى إلى الاستفادة إلى أقصى حد من هذه السياسة. ورغم أن هذه الأسواق حققت قفزات نوعية في إدارة اقتصاداتها في السنوات الماضية، إلا أن هذه النقطة بالتحديد تعتبر بمنزلة "ثغرة دائمة" في هيكلية اقتصاداتها.
الدول الغربية تعتقد أن اكتناز العملة في الدول النامية - الصاعدة يعرقل التقدم نحو مزيد من الاستقرار الاقتصادي العالمي. وبالفعل بدأت الولايات المتحدة علانية توجيه الاتهامات للحكومة الصينية، بأن عملة هذه الأخيرة لا تزال دون مستواها الحقيقي، وأن عليها أن تتحرّك من أجل رفع قيمة اليوان الصيني إلى المستوى الحقيقي له. وهذا ينذر في الواقع بأزمة أخرى جديدة بين بكين وواشنطن، خصوصاً بعد أن تبنى الكونجرس الأمريكي موقف الإدارة بهذا الصدد. ولا بد من الاعتراف، أنه على الرغم من إحراز بعض التقدم على صعيد الاقتصاد العالمي، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أن هذه المشكلات، تزيد من مدة عدم التوازن في الاقتصاد العالمي. فالمصالح الوطنية (غير العادلة)، لا تزال تطغى على المشهد العام. والتفاوت في المفاهيم الاقتصادية العامة، ظل حاضراً في هذا المشهد.
لا يمكن أن يتعافى الاقتصاد العالمي، بينما الاضطرابات تسود الأسواق الناشئة. في الأسابيع القليلة الماضية، هدأت المخاوف بعض الشيء من الانفجار الذي يعتبره المراقبون مرعباً، لكن مسبّباته لا تزال موجودة، بل إن الخلافات بين الأطراف المعنية الغرب والشرق، زادت بصورة حادة. حتى اللباقة السياسية لم تعد حاضرة على الساحة. ورفعت التوترات التي تشهدها الأسواق الناشئة من وتيرة العنف في المواقف. ووسط هذه الأجواء، لا يمكن أن يظهر التوازن الاقتصادي المطلوب في المدى المنظور. وقبل أن يتوصل الشرق والغرب معاً إلى مفاهيم اقتصادية واحدة، تخص النمو والآليات الخاصة به، فإن الاضطراب سيتواصل، وسيتخذ أشكالاً أشد خطورة. إن العالم اليوم في أمسِّ الحاجة إلى التفاهم، بل إلى الحلول الوسط.