ما حقيقة النضوب الاقتصادي للنفط؟
قرأت لاثنين من عمالقة الاقتصاد في المملكة، أجلهما وأحترم رأيهما، حول موضوع ما يسمى "بالنضوب الاقتصادي للنفط". والمقصود، حسبما أظن، أنه من الممكن أن ينتهي عصر النفط ويستغني عنه المجتمع الدولي عندما ترتفع أسعاره إلى مستويات قياسية، على الرغم من وجود كميات كبيرة منه لم تطلها بعد وسائل الإنتاج. ولدي تحفظ شديد على جملة "النضوب الاقتصادي للنفط"، ليس لعلم عندي ولكن لعدم اقتناعي بهذا المفهوم. فالاستغناء عن مصدر مهم من مصادر توليد الطاقة، مرهون بوجود بديل مناسب وبتكلفة أقل، وهذا غير مضمون وحتى بعيد الاحتمال. والاستغناء عن النفط قبل ضمان البديل له مهما ارتفع سعره عملية انتحارية. والمشتقات النفطية ليست فقط مصدرا مهما لتوليد الطاقة، بل هي أيضا مصدر لمواد أولية حيوية بالنسبة إلى كثير من الصناعات البتروكيماوية التي تعتمد عليها البشرية في إنتاج ما لا يعد ولا يحصى من المنتجات الصناعية والاستهلاكية. ومرسبات عملية التكرير هي أيضا مصدر لمواد رصف وتعبيد الشوارع والميادين والطرق العامة، ولن يكون الاستغناء عنها بتلك السهولة لعدم توافر ما يقوم مقامها، ناهيك عن الشبكة العنكبوتية للبنية التحتية الحالية التي تخدم الصناعة النفطية من البئر إلى المستهلك. ولا يمكن بحال من الأحوال أن نقارن النفط، لا من حيث كثافة الطاقة ولا تنوع الاستخدام وسهولة النقل، مع مصادر الطاقة الأخرى كالفحم والخشب، على سبيل المثال، اللذين انخفض استخدامهما لفترة وجيزة بعد اكتشاف النفط، ولكن سرعان ما استعادا أهميتهما. فأصبح الفحم من أبرز مصادر وقود توليد الطاقة الكهربائية، والخشب مصدر متميز لصناعة الأثاث والبيوت الجاهزة. وبالمنطق السليم، وما وصل إليه مجتمعنا من المستوى العلمي واتصالنا المباشر بمراكز البحوث العلمية، نستطيع أن نحكم على مدى إمكانية إيجاد مصدر جديد يمتلك جميع مقومات وخصائص المواد النفطية، السائلة والغازية، خلال المستقبل المنظور. فنسبة حدوث ذلك نادرة ولا تكاد تذكر. وبناء عليه، فإن مجرد الحديث عن احتمال الاستغناء عن النفط بسبب ارتفاع أسعاره هو أمر يجب ألا يأخذ أي حيز من تفكيرنا. وفي نظرنا أن النضوب الطبيعي للنفط التقليدي، بسبب الإسراف في إنتاجه واستهلاكه، هو أقرب إلى الواقع وأكبر خطرا علينا نحن المنتجين وعلى مستقبل أجيالنا من النضوب الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن الذي يحدد الأسعار النفطية بوجه عام هو العرض والطلب، كما هو متفق عليه من الجميع، إلا أن المنتجين الرئيسيين لديهم الوسائل والقدرة التي تمكنهم من فرض واقع معين يحكم مستوى الأسعار. ومن ضمن تلك الوسائل بيع إنتاجهم بالسعر الذي يضمن لهم استمرارية استخدام المشتقات النفطية كمصدر للطاقة بدلا من استخدام المصادر المنافسة، على فرض أن يكون سعر البرميل أعلى من مجمل تكلفة الإنتاج والنقل. ولو فرضنا جدلا أن ارتفاع الأسعار أدى إلى عزوف المستهلكين عن استخدام المصادر الأحفورية قبل إيجاد ما هو أفضل، فذلك حتما يعني تفشي الكساد الاقتصادي وتوقف الحركة وحدوث شلل مخيف للآلة الصناعية وانتشار البطالة، مما سيؤدي بدوره إلى انخفاض الطلب على مصادر الطاقة فتهبط الأسعار تبعا لذلك إلى مستويات مقبولة. ثم يعود الاستهلاك من جديد إلى سابق عهده وترتفع الأسعار مرة ثانية.
والذي نتوقع وقوعه فعلا، هو نضوب طبيعي لنسبة كبيرة من النفط التقليدي الرخيص خلال أقل من ثلاثة عقود. وهو ما قد يتسبب في فقدان عشرات الملايين من البراميل من مجموع أكثر من 90 مليون برميل في اليوم، هي المعروض حاليا في السوق النفطية. وإذا لم يتمكن العالم حينئذ من إيجاد مصدر جديد بتكلفة معقولة، إلى جانب المتوافر الآن من المصادر المتجددة، فإن الوضع العام لمصادر الطاقة سيعاني نقصا مخيفا قد يتسبب في حدوث توقف تام للنمو الاقتصادي. وسيتساءل الكثيرون عن الدور الذي ستلعبه المصادر النفطية غير التقليدية، التي يبلغ احتياطيها أكثر من ستة تريليونات برميل، وأهمها الصخور والرمال النفطية والنفوط الثقيلة والحيوية، إضافة إلى الاكتشافات الجديدة في أعماق أعالي البحار. والجواب المختصر، هو أن تلك المصادر بطبيعتها شحيحة الإنتاج. ولا تستطيع تحت أي ظرف من الظروف تعويض المصادر التقليدية ذات الإنتاج الغزير والتكلفة المتدنية، حتى ولو تغاضينا عن معظم تأثيرها السلبي على البيئة. فمعدل إنتاج بئر النفط الصخري، بعد عملية التكسير الهيدرولوكي، يتراوح بين 100 إلى 150 برميلا في اليوم. وإنتاج كمية متواضعة منه يتطلب حفر آلاف الآبار المكلفة، ولا يدوم إنتاج البئر أكثر من بضع سنوات. وكذلك الحال مع النفوط الثقيلة والرمال النفطية، فعطاؤها قليل مقارنة بالتقليدي. واحتمال ارتفاع تكلفة إنتاج البرميل من تلك النفوط غير التقليدية عن المستوى الحالي أكبر من احتمال نزوله لسبب جوهري. وهو أن المراحل الأولى من الإنتاج عادة ما تبتدئ من المناطق الأفضل إنتاجا، ثم تتدرج مع مرور الوقت إلى الأدنى والأكثر تكلفة. ومن المتوقع خلال العقود القادمة ألا تقل تكلفة إنتاج النفوط غير التقليدية عن 100 إلى 150 دولارا للبرميل، وتكون في صعود مستمر.
والشاهد هنا، أن العالم ربما يشهد نقصا حادا في الإمدادات النفطية قبل أن يتمكن من إيجاد بدائل مناسبة بتكلفة مقبولة، وهو عبارة عن تحييد لمسألة النضوب الاقتصادي للنفط.