«مساء الوطن» .. الإبداع الذي يئن
تشرفت بالمشاركة في برنامج مساء الوطن الذي تبثه القناة الإخبارية كل مساء عند الساعة الثامنة، وبما أن زيارة مبنى التلفزيون السعودي ليست المرة الأولى لي، فلم تكن هناك مفاجآت كما كانت أول مرة، ولذلك كنت أتعامل مع الكثير من الأمور بطريقة هادئة وبسيطة، لكن على الرغم من ذلك فإن الزائر الجديد للتلفزيون السعودي قد يستاء كثيرا من طريقة التعامل مع الضيوف، بدءًا من البوابات وحتى تجد نفسك متهالكا على مقاعد الاستوديو وبالكاد تعرف ماذا عليك أن تفعل، إلا أن ذلك الاستياء في كل مرة يزول مع رؤية الشباب السعودي المتحمس وهو يقوم بترتيب كل شيء بدءا من استقبالك وحتى خروجك، لكن نصيحتي لك ألا تجازف وحدك بالدخول أو الخروج بلا مرافق، ذلك أنك إن فعلت فستدخل في دهاليز هرم خوفو الأكبر، وقد ينتهي وقت البرنامج قبل أن يجدك أحدهم. هناك المئات من الإرشادات لكنها بلغة "هيروغلفزيونية". من المهم أن تحضر باكرا، لا تجازف بتحدي زحمة مدينة الرياض، إنها زحمة لا يمكن تحديها بأي شكل، وستخسر حتما، حاول أن تكون بجوار مبنى التلفزيون قبل بدء البرنامج بنصف ساعة على الأقل لكن لا تدخل المبنى فليس هناك مكان لاستقبالك، لا تفكر في موضوع الضيافة، هناك "محل بوفيه" قريب، انتظر هناك حتى يتم الاتصال بك من قبل المنسق، واحرص على أن تأخذ معك قارورة ماء صغيرة.
على الرغم من ضعف الدعم الذي يجده فريق مساء الوطن، لكن كانت لي معهم تجربة مختلفة، فالبرنامج يحاول أن يقدم موضوعات للوطن إبداعية بروح الحماس الذي يلف فريق البرنامج، سلمان القباع معد البرنامج يبذل جهدا خرافيا من أجل ترتيب كل شيء لبرنامج يبث يوميا في وقت الذروة الذي تتنافس فيه جميع القنوات العربية. فالبث يمثل تحديا يوميا في المادة الإخبارية، في الحضور والمشاركين سواء داخل الاستوديو أو من خلال الاتصالات الهاتفية، فالبرنامج لا يدور حول نقطة حوارية مركزية، يمضي المشاركون فيها ساعة من النقاش الممل حول نقطة مملة، بل قفزات خفيفة مركزة من النقد الهادف، إلى عرض تجارب رائدة للشباب المبدع في أرجاء الوطن. بحث يومي عن موضوعات يثيرها المجتمع في تويتر، ومراسلون يبحثون عن المبدعين في كل الأركان والزوايا الخفية. فالبرنامج برمته فقرات إبداعية من شباب مبدع يبحث عن المبدعين. في مشاركتي استمتعت جدا عن قرب بصوت المذيع المتألق محمد الراشد، ورأيته كيف يعمل بأناقة قبل بدء البرنامج وينسق العمل بينه وبين زملائه الآخرين، رأيته قائدا أكثر منه مذيعا، يدعو هذا ويعلم تلك، يقفز هنا وهناك، يتأكد من مكان ووضع التصوير، ومعه مصورون من الشباب السعودي الغيور بشكل كبير على عمله، لقد رأيت نقاشا حادا بينهم قبل البدء في العمل حول العمل، غاضبون من أمر ما "نقص الدعم الإداري فيما بدا لي" لكنهم ملتزمون بما يجب، عندما ترى هذه الصورة من خلف الكواليس ثم تذهب إلى المنزل وتشاهد البرنامج في الإعادة تندهش لمدى انضباط هؤلاء الشباب وإبداعهم، على الرغم من وحدتهم التي شعرت بها وهي تقسو عليهم داخل دهاليز هرم التلفزيون السعودي.
إنه شعور ضاغط بالعزلة منذ دخولك المبني، فالاهتمام بهذه النخبة من الشباب المبدع يكاد ينعدم، حتى وهم يبذلون جهدهم للترحيب بالضيوف، وفي النفس لا يجدون شيئا لضيافتهم سوى ابتساماتهم وتركيزهم في عملهم، في مساء الوطن موضوعات جيدة بذل فيها جهد كبير وعرضت بطريقة احترافية لتكسر حواجز الملل عند المتابع لكنه يحتاج إلى فريق ضخم، ودعم كبير، قبل أن يصل الملل نفسه إلى هؤلاء النخبة. في مساء الوطن رأيتهم كيف يبحثون عن المبدعين ويرسلون المصورين ويعدون الحوارات، كل ذلك فقط لدعم مبدع معزول في ركن من أركان الوطن، يأخذونه من عزلته إلى سماء الوطن ليراه الجميع ويطلبون دعمه. كيف لا أشفق عليهم، فهم يهتمون بالمبدعين في كل مكان لكنهم في حاجة إلى من يمد يده إليهم ليخرجهم من عزلتهم تلك، لقد رأيت من شباب مساء الوطن ما يجعلني أعيد التفكير في القول الشائع "فاقد الشيء لا يعطيه" ذلك أنهم مع فقدهم الدعم دعموا الآخرين بلا حدود.
من المدهش جدا، وأنت تستمع لهموم المبدعين الذين يظهرون على شاشة مساء الوطن، أنهم قد اتفقوا جميعا على ضعف دعم المواهب الشابة، فأين بالله كل تلك الأموال التي تنفق على ما أسموه الحاضنات، أين كل ما قد قيل ولم يزل يقال عن المبدعين وجمعياتهم وجامعاتهم وهيئات الوطن أجمع، أين كل هذا، بينما الواقع يئن فلا يجد الشاب المبدع المعزول عن الموارد سوى شاب مبدع آخر يهتم به. وبينما شباب مساء الوطن يركضون الآن للإعداد ليوم جديد من الإبداع أرفع مقالي هذا إلى هيئة التلفزيون والإذاعة أن تهتم بهؤلاء الشباب وأن تقدم كل ما يحتاجون إليه وأن تحافظ عليهم من أجل أن يبقى لنا شيء يبرز لنا بشكل يومي أجمل ما في الوطن من إبداعات وجماليات. يا هيئة التلفزيون، إنهم شباب يتنفسون الإبداع، ولهذا صبروا على مرارة العزلة.