الخرائط الطبية

أدهش الرازي الجميع بفكرته عندما طلب الخليفة العباسي منه اختيار مكان لبناء مستشفى، حينها أخذ قطعة لحم كبيرة وجزأها إلى أربعة أقسام ووزعها على أماكن مختلفة، ووضع عليها حراسا وكان يزور المكان على فترات ويراقب قطع اللحم، وآخر قطعة تعرضت للعفن اختار مكانها ليقيم المستشفى عليه!
وبذلك أقر أحد أهم أسس علم الطب ووضع الخطوط العريضة لأول خريطة توضح العلاقة بين المرض والمكان وبين المريض وبيئته، أما أول خريطة طبية فعلية توضح توزيع الأمراض في العالم كانت ألمانية ونشرت عام 1837.
وفي عام 1845 اجتاحت الكوليرا لندن وفي كل ساعة يزداد عدد الوفيات، ما أثار الرعب بين السكان وكانوا يعتقدون أن السبب أبخرة متصاعدة من الأرض، لذا قام الدكتور جون سنو برسم خريطة تظهر منازل المتوفين بالكوليرا ومواقع مضخات المياه كي يتمكن من دراسة الأسباب، ووجد مضخة تركزت حولها معظم الإصابات فتوقع أن الماء القادم منها هو سبب العدوى فأصدر أوامره بإزالة المضخة، ما أدى إلى انخفاض عدد الإصابات.
فالموقع الجغرافي للمكان يؤثر في نوعية الأمراض والأوبئة التي تنتشر فيه، مثل العيش في أطراف المدن وعلى الطرق التجارية والأماكن المزدحمة بالحركة التجارية كالمناطق الحدودية تكون عرضة لانتشار الأمراض المعدية والوبائية، حتى الموقع الفلكي يؤثر في الصحة، ففي العروض المدارية تنتشر الملاريا والكوليرا والبلهارسيا، خلاف العروض الباردة التي تسودها النزلات الشعبية والإنفلونزا ولين العظام.
وفي المناطق القطبية ينتشر لديهم ضعف البصر نتيجة انعكاس ضوء الشمس على الجليد فيصدر ضوءا شديدا يضر النظر.
والتضاريس كذلك تؤثر في الصحة، فالعيش في المناطق المرتفعة التي يقل فيها الأكسجين والضغط مما يؤثر في القلب والرئة، إلا أنه في الوقت نفسه من أنسب الأماكن لسرعة شفاء أمراض الحساسية والأكزيما نظراً لقوة الأشعة فوق البنفسجية في المرتفعات.
حتى تركيب الأرض ونسبة المعادن فيها قد يؤدي إلى انتشار أمراض معينة مثل سرطان المعدة والأمعاء، حيث تزداد الإصابة بهما مع ارتفاع نسبة الكروم في التربة.
ولأهمية البيئة والمكان والنشاط التجاري فيه في اكتشاف الأمراض ومعرفة أسبابها والوقاية منها قبل انتشارها، يسعى كثير من المختصين والأطباء لمنح هذا الموضوع أهمية أكبر وإضافة معلومات عن بيئة المريض في ملفه الصحي ولا يكتفى بتاريخه المرضي فقط، بل موطنه وتنقلاته والأماكن التي زارها ومدة إقامته فيها.