اللحظة الأخيرة ..
مشكلة الإنسان الكبرى أنه لن يستطيع في حال من الأحوال أن يدرك - اللحظة الأخيرة - من عمره. لن يدرك الفعل الأخير الذي ينهي حياته به، ولن يكون بوسعه أبدا أن يحدد الانطباع الأخير الذي سيتركه من خلفه في قلوب من حوله.
هنا يتجلى الكمين الوجودي العظيم الذي لا مفر منه.. ولا مهرب من مواجهته، ولا سبيل للخلاص من الوقوع فيه. في كتاب الله تأتي هذه الحقيقة بشكل ثابت لا مواربة فيه، بتلازم قدر الخواتيم المقلقة المفتوحة على الفعل والسلوك، حيث يظل الموت ذاك الباطن المكنون الغائب الحاضر، اليقين الذي يعيش في قلوبنا متخفيا بحس الشك، وبحس البعد، وبحس اللحظة التي ربما لن تكون الآن.. وستكون دائما فيما بعد.. وفي لحظة أخرى ليست بالتأكيد هي هذه اللحظة.. يقول الله تعالى "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت". الكسب هو الفعل الاختياري الحر من العبد يأتي مع ظلال الفقد الحاضر المكنون المتربص ليجعلنا دائما أمام "ربما تكون" الكلمة الأخيرة، والانطباع الأخير، الصلاة الأخيرة، والبسمة الأخيرة، والدمعة الساخنة الأخيرة التي كان الخوف، أو الرجاء، أو خيبة الأمل فيمن نحب، ومن نحب.
كل يوم 19 إنسانا خرجوا من بيوتهم.. مثلنا تماما تركوا من خلفهم انطباعا "ما" لم يُخيل إليهم أنه ربما يكون الانطباع الأخير! ربما ظلموا زوجاتهم.. ربما أهانوا أبناءهم! ربما كانت منهم الجفوة والغلظة غير المبررة لخدمهم! ربما لم يقبل جبين أمه بشغف من سيغادر دنياه! ربما لم يتريث قليلا في سجدة الفجر ولا في طول ركوعها وتراتيل قرآنها! ربما لم يخبر من يحبهم بحبه العميق المكنون!
إلا أن طاحونة الطرق المجنونة بسرعتها وانفلاتها وعبثها القاتل، جعلته من ضحاياها، بكل ما في قلبه من أحلام وخوف وطمع، وبكل ما في جيبه من مال حرام، وبكل الانطباعات الأخيرة التي لم يلملمها من خلفه، خلف باب بيته، وعلى طاولة مكتبه للمرة الأخيرة.
اللحظة الأخيرة هذه.. هي مفهوم وجودي.. يساعدنا على أن نكون أفضل دائما، وأقل فسادا بشكل مستمر، لأن هذه اللحظة فعل غير إرادي ولا اختياري، إلا أنه وعي للوجود وللذات بشكل أعمق وأبعد من استقرار حاضره.
كثيرون كانت هذه اللحظة سيئة جدا في خاتمتها! مع سيول جدة جرفت السيول الرشوة والمرتشي إلى ذات المصير وذات المنقلب! كثيرون كانت اللحظة الأخيرة قبل أن ينفق المال الحرام الذي كسبه، وقبل أن يتطهر من دنس الخطيئة!
وكثيرون يغادروننا وقد تركوا فينا، ما لا نستطيع مغفرته لهم من قسوتهم وظلمهم وغرورهم وبغيهم على كل ضعيف وعاجز!
لا أحد بوسعه أن يحدد هذه اللحظة الأخيرة أبدا.. هي لحظة انطواء القرب ونهايته، وبداية البعد الذي لا جمع بعده. ولا التئام مؤدٍ لغيره.. هي اللحظة المفضية إلى الصورة الأخيرة والنهائية للذات أمام الله والناس والملائكة أجمعين.
كلنا يعرف هذا، ولكن لنبدأ الآن بيقين مختلف هذه المرة.. يقين لا نتخلى أبدا عنه، أن نفعل كل شيء، بوصفه الفعل الأخير، وأن نترك الانطباع فيمن حولنا باعتبار أن هذا ما سيبقى بعد رحيلنا في قلوبهم، وأن اللحظة الأخيرة.. والكلمة الأخيرة.. والابتسامة الأخيرة، والعطاء الأخير.. والانطباع الذي لن يتكرر مرة أخرى قد يكون بعد كل فعل نقرر أن نفعله.. ولو لمرة واحدة.
هذا اليقين وحده الذي يستوعب كل شيء، ويبلغ بالمرء مفارقته لكل شيء، وهناك عشق سينشأ لكل شيء. وعفة عن كل شيء. وحب لله في كل شيء.