شراكة متينة مع الصين لعالم أكثر استقرارا وتوازنا
العلاقة مع الصين ليست جديدة على شعب المملكة، وهناك الكثير من العمل المشترك والتفاهم الواسع في شتى القضايا، وتأتي زيارة ولي العهد الأمير سلمان إلى الصين تلبية لدعوة تلقاها من لي يوان تشاو نائب الرئيس الصيني في هذا الإطار من العلاقات الجيدة، لكن الأمير سلمان خلال هذه الزيارة يتجه إلى نقلها من مجرد علاقات جيدة إلى علاقة استراتيجية متينة، فلماذا جاءت هذه النقلة المهمة في العلاقات بين البلدين؟ وهل من مبررات؟ الحقيقة الواضحة أن الاقتصاد الصيني والاقتصاد السعودي جميعاً من أعضاء مجموعة الدول العشرين، وهي المجموعة الاقتصادية الأكبر في العالم التي تحملت وزر الأزمة المالية العالمية وتصدت لها من خلال اجتماعاتها المكثفة حتى الوصول إلى تعاون مثمر لحل الأزمة، لكن من بين جميع الدول العشرين الأكبر اقتصاداً في العالم تحملت المملكة والصين معاً ضمان بقاء النمو الاقتصادي العالمي في مساره بينما كانت دول العالم الأخرى تعاني ويلات الأزمة والإصلاحات الاقتصادية. فالمملكة من جانبها ضمنت للعالم رفع معدل النمو في ضخ المليارات في الاقتصاد مع استقرار أسعار النفط واستقرار مستويات الإنتاج ورغم توقف الإنتاج في عدد من الدول إلا أن المملكة تحملت وحدها كل الضغوط وحافظت على المستويات التي يحتاج إليها العالم لبقاء النمو العالمي في مساره، وفي المقابل عملت الصين على الحفاظ على مستويات عالية من النمو الاقتصادي خلال أشد فترات الأزمة العالمية وأكثرها قسوة فحققت نمواً بلغ 8 في المائة وحافظت عليه لسنوات عدة، وبهذه القدرة على النمو حافظت الصين على مستوى طلب عالمي فاعل على النفط والمنتجات العالمية الأخرى، ما ساعد باقي دول العالم على الحفاظ على مستوى معقول نسبياً من النمو. لقد أدى التفاعل الناجح والالتزام بالعهود الدولية إلى بقاء العالم في مسار اقتصادي جيد وأوقف التدهور العالمي الذي كان سيقود إلى تدهور سياسي واجتماعي كبير وخطير ولن يكون أحد في مأمن منه. لقد كانت المملكة والصين أفضل اللاعبين الاقتصاديين خلال حقبة كارثية، والتزام البلدين بكل تلك الالتزامات الصعبة يعطي مؤشرات واضحة على أنه بالإمكان الاستفادة من أجواء الثقة هذه والعمل على بناء علاقة طويلة على أساس خلق توازن عالمي مستدام ومن خلال علاقة استراتيجية تؤسس لمسار واضح من التعاون للبلدين خلال الفترة القادمة.
المملكة أكبر مصدر للنفط في العالم، كما أنها تملك مخزوناً استراتيجياً ضخماً، الصين تملك قدرات إنتاجية وتصنيعية هائلة، المملكة والصين تحققان نمواً مطرداً في الطلب المحلي. الصين تتحول من مرحلة جذب رؤوس الأموال إلى مرحلة تصدير التكنولوجيا، والمملكة تمر بمرحلة جذب التكنولوجيا رؤوس الأموال من أجل نقل المعرفة والتكنولوجيا وبناء مجمعات صناعية كبرى. الصين تريد الوصول السهل إلى اقتصادات العالم، وهذا يتطلب تخفيض التكلفة، خاصة التأمين والنقل والمواد الأساسية للتصنيع، والمملكة تمتلك موقعاً جغرافياً فريداً ولديها موانئ تربط بين قارات العالم القديمة، كما أنها مورد عالمي للمواد الأساسية. فالشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين ستخلق كيانات ضخمة قادرة على نقل التكنولوجيا واقتحام الأسواق العالمية واستدامة النمو الاقتصادي في البلدين وحل مشاكل البطالة فيهما.
ولأن الشراكة الاستراتيجية تبنى على أساس متين من الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإن كلا البلدين يمتلكان تلك المميزات اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأي بلد آخر في العالم، فالمملكة حققت تصنيفاً ائتمانياً متميزاً، والدين العام عند أدنى مستوياته، ورغم أن الصين تعاني ديناً ضخماً إلا أن قدرتها على السداد كبيرة جداً نظراً لما تمتلكه من اقتصاد قادر على الإنتاج والوصول إلى الأسواق بسهولة، لهذا حافظت على ثقة مؤسسات التصنيف العالمية وتصنيف متميز مقارنة بالدين الذي عليها. الصين تمر بمرحلة استقرار سياسي واجتماعي ملحوظ واستطاعت أن تحل مشاكلها مع جارتها بهدوء وتقلل من مخاوفها تجاه النمو الصيني الضخم، والمملكة حققت نجاحاً سياسياً، وتتمتع باستقرار كبير ودعم شعبي واسع، رغم كل الظروف السياسية المحيطة والملتهبة، وهذا الاستقرار الكبير في البلدين قادهما على لعب دور محوري في كل القضايا العالمية الساخنة ومنها قضية سورية وأمل الشعب السوري في العودة إلى الاستقرار والهدوء، فلا بد لنجاح الجهود أن تعمل المملكة على بناء علاقة استراتيجية طويلة الأمد مع الصين مبنية على الثقة المتبادلة حتى يمكن تنسيق الجهود والعمل المشترك من أجل نزع فتيل الأزمات السياسية التي قد تؤثر سلباً في مصالح البلدين المشتركة.
إن التحولات الاقتصادية والسياسية في العالم تتغير بسرعة كبيرة وخطى واسعة، والعالم الذي بنى علاقاته خلال القرن العشرين على نموذج القطبين والتوازن الهش بينهما، يعمل اليوم على خلق كيانات عدة وأقطاب متعددة في العالم، تضمن بقاء العالم متوازناً والموارد موزعة بطريقة أكثر عدالة، ومن المتوقع في السنوات القادمة أن تزيد عمليات الاستقطاب سخونة، وأن تظهر معالمها بشكل واضح، والمملكة تعمل اليوم بكل قوة على أن تكون محوراً عالمياً وقطباً مهماً ينقلها إلى موقع سياسي أكثر تأثيراً في القرارات الدولية.