تخطيطنا الاستراتيجي «رأس الذئب وجسد الشاة»

مدير إحدى أعرق الشركات قال لي إن التخطيط الاستراتيجي غير مجد، وما هو إلا حبر على ورق وتكاليف كبيرة تنفق على المستشارين الإداريين، لتحصل المنشآت على أكوام من الورق توضع في الأدراج، وآخر يقول كم أنفقنا من الوقت والجهد والمال لإعداد الاستراتيجيات التي كان مستقرها الأدراج، وعُدنا لطريقة عملنا المعتادة "طقها ولحقها" استجابة للمعطيات والمتغيرات، وما هو ملح ثم مهم، مبيناً لي أن الاستراتيجيات رؤى لمستقبل غامض، الأمر الذي يفقدها المرونة، ما يجعلنا نتخلى عنها عند أول منعطف.
كلام لا يمكن التقليل منه أو الاستهانة به، فهذان الكاتبان روبرت كابلان وديفيد نورتون في كتابهما الخرائط الاستراتيجية يقولان إنهما درسا ما يقرب من 200 شركة عالمية في الفترة 1988 ــ 1998، ووجدا أن 10 في المائة فقط منها نجحت في الالتزام باستراتيجيتها وتطبيقها، بينما فشلت البقية الباقية في التطبيق لا في الاستراتيجية، وهو الأمر الذي دعاهما للبحث في أسباب الفشل في التطبيق الذي يعانيه مديرونا أيضاً، فتوصلا إلى أن سبب فشل الاستراتيجيات في 70 في المائة من الحالات ليس فشل الاستراتيجية نفسها، بل فشل تطبيقها وتنفيذها.
من ناحيتي، أجزم أن أكبر أسباب فشل الاستراتيجيات هو عدم الاهتمام بتوفير متطلبات تطبيقها وتنفيذها كالهياكل الإدارية المناسبة والكوادر البشرية المؤهلة والماهرة والأنظمة الإدارية والمالية والتحفيزية والمعلوماتية اللازمة وأنماط الإدارة والثقافة التنظيمية المناسبة لطبيعة الاستراتيجية، وهو ما لاحظته في كثير من المنشآت التي تفشل في تنفيذ خططها الاستراتيجية حتى فقدت الثقة بالتخطيط الاستراتيجي وأصبحت على قناعة تامة بأنه غير مجد بتاتاً. ولكون المثال يوضح المقال كيف ترون نجاح استراتيجيات الذئب القائمة على التفكير والدهاء والمباغتة لو كان جسده جسد شاة؟ بكل تأكيد الأمر مضحك إذ لا يمكن تنفيذ ما يخططه رأس ذئب بجسد شاة فخطط الذئب تتطلب جسدا بهيكل مختلف وإمكانات مختلفة، وهذا وضع المنشآت التي فشلت في تنفيذ الخطط الاستراتيجية، حيث تضع خطط استراتيجية تقوم على الفكر والدهاء والإبداع والابتكار والمناورة العالية والقدرة على اكتشاف الفرص والتهديدات والمبادرة والاستجابة وغير ذلك، ثم تجدها بهياكل تقليدية وبموظفين ذوي مهارات لا تتناسب بتاتاً مع هذا النوع من المهام، إضافة إلى أنظمة بطيئة محبطة وغير محفزة وثقافة تنظيمية متباينة بشكل هائل بين القيادات، فضلاً عن الإدارة الوسطى والإدارة التنفيذية الدنيا.
أذكر أن إحدى المنشآت الخيرية وضعت استراتيجية أكثر من رائعة، وبعد سنوات لم تنفذ منها إلا النزر القليل، وعند تحليل ذلك من أحد المختصين وجد أن كل متطلبات تنفيذ الخطط الاستراتيجية غائب، وأن أفضل ما هم عليه أن يسيروا في المسارات الاستراتيجية الرئيسة ببطء شديد، أي أنهم لم يضلوا الطريق إنما يسيرون ببطء شديد جعل من الخطة الاستراتيجية فاشلة لأنها لم تحقق أهدافها في الوقت المناسب، وكلنا يعرف أن الخطط تشتمل على أهداف وصفية كمية يجب تحقيقها في مدة زمنية محددة وإلا انحرفت الخطة عن تحقيق أهدافها.
أنماط التخطيط الاستراتيجي متعددة وبعضها أفضل من بعض، ولكن ما هو أكيد أن أي نمط يعتمد ويتم التخطيط الموضوعي الذي يشمل الرؤية والرسالة والأهداف العامة القيم الحاكمة والبرامج والمشاريع التنفيذية على أساسه يتطلب جسداً يتناسب وهذه الخطة غير التقليدية، فالتخطيط الاستراتيجي ليس كما التخطيط التقليدي، ذلك أنه يعتمد على منظومة مفاهيم انبثقت من مصدر التخطيط الاستراتيجي وهي الحروب العسكرية التي تعتمد بشكل كبير على "الخدعة" ومتطلباتها من السرعة والمفاجأة والمباغتة والغموض والاستدراج والتوريط وغير ذلك من الحيل والفنون التي تحقق مفهوم "الخدعة" لتحقيق الأهداف والسيطرة، وكلنا يعرف أن التخطيط الاستراتيجي أداة منافسة وتحد بخلاف التخطيط التقليدي.
وبكل تأكيد هذا الجسد يجب أن يكون قويا ومرنا وقادرا على الرصد والمبادرة والاستجابة واغتنام الفرص والتصدي للعوائق والتحديات والتهديدات كما هو وضع جسد الذئب لرأسه لتتحقق الأهداف الاستراتيجية، التي عادة ما تتمحور حول الأهداف الإنتاجية والتسويقية والمالية وتنمية الموارد البشرية، كما توضح ذلك بطاقات الأداء المتوازن التي تقيس وتقيم الأداء ومستوى التقدم بالخطة الاستراتيجية أولا بأول في هذه المسارات الأربعة المهمة التي يجب أن تعمل بشكل متواز، وكم من منشأة اطلعت على مستوى التنفيذ لاستراتيجيتها، فوجدتها تركز على الإنتاج أو التسويق أو الأهداف المالية بشكل متباين بشدة، ما يجعل الأداء مختلا ولا يحقق الأهداف فتفشل الاستراتيجية تلقائيا، وللأمانة أكثر المنشآت لا تلقي بالاً لتنمية مواردها البشرية بما يتفق والمعارف والمهارات والمفاهيم والقيم المطلوب أن يتحلى بها موظفوها.
عكس التخطيط العشوائية وعكس التخطيط الاستراتيجي التخطيط التقليدي ونحن نعيش في عالم مترابط يشهد منافسة شديدة في جميع المجالات وأصبح الأسرع يأكل الإبطاء والاستراتيجية أداة تحقق السرعة والمباغتة والمفاجأة والاستخدام الأمثل للموارد، والقدرة على اكتشاف الفرص واغتنامها واكتشاف التهديدات وتجنبها، والتخطيط الاستراتيجي يستخدم اليوم على نطاق واسع وإذا لم نتقن هذا الفن وتبرع به منشآتها الحكومية والخاصة والمدنية سنفقد الكثير من الفاعلية والكفاءة ونتأخر عن الركب، وبالتالي علينا أن نجد حلا لتفعيل التخطيط الاستراتيجي وتمكين جميع المنشآت من إتقانه والتطور في تطبيقه وتحقيق مفاهيمه كافة لتعزيز قدراتها التنافسية وفاعليتها وكفاءتها بما يتناسب وسرعة التطورات من حولنا.
أتطلع إلى أن تقوم وزارة التعليم العالي، من خلال البعد الثالث الذي تؤمن به، وهو التفاعل مع قضايا المجتمع، بمهمة إعادة تشكيل الوعي حيال التخطيط الاستراتيجي من جهة التخطيط والتنفيذ والتطبيق السليم والفاعل. وأعتقد أن الوزارة بما لديها من جامعات منتشرة في جميع أنحاء المملكة، يمكن أن تطور برنامجا خاصة لخدمة المجتمع في هذه القضية المهمة والحيوية والحاسمة في عملية التنمية الإدارية، وما يترتب عليها من أهداف تنموية أخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي