محاولة لفهم التصرف القطري

يُفهم تصرف الدول عادة من منطلقات جيواستراتيجة أو اقتصادية أو أيديولوجية لخدمة مصالحها، فالسياسات عادة لا تخرج عن نطاق تلك المنطلقات وإذا خرجت فإنها تصبح مصدرا لعدة تأويلات من النزعات الشخصية إلى الفكر التآمري. يذكر أن كيسنجر وصف دور سورية بعد حرب 73 بأنها لا تستطيع الحرب وحدها، لكن يصعب السلام دونها، ولعل هذا حال قطر اليوم، فهي ليست من القوة في فرض نهج مختلف على المنطقة، لكن لديها من معطيات القوة ما يمكنها من التشويش وحتى التخريب. ليس لقطر بعد جيواستراتيجي يؤهلها للطموح في المنطقة، وليس لديها قوة اقتصادية مقارنة بأغلبية دول المنطقة - فهي دوله نفطية ذات قاعدة سكانية صغيرة وطاقة بشرية محدودة. المجتمع القطري قبلي وليس ذا نزعة أيديولوجية ولم يؤسس النظام السياسي على خلفية أيديولوجية. نظرا لأن الحالة غير عادية دعنا نراجع المصادر المحتملة للتفكير القطري خارج الصندوق. حتى داخل الصندوق. راجعت الصحف القطرية بعد سحب السفراء ولم أجد تأويلا رصينا.
تحاول قطر التمركز بمزيد من النفوذ على خلفية ظروف حساسة وأحيانا حرجة في توازن دول المنطقة والتحديات الداخلية التي تواجه الكثير من دول المنطقة، لذلك فإن محاولة قطر تأتي في وقت يعطيها نفوذا أكثر من حجمها في الأحوال العادية. هناك احتمالات عدة لمصادر التصرف وتقنين مصادره. الاحتمال الأول أن الرصيد المعنوي تاريخيا لدى قطر ليس كبيرا، وبالتالي يؤجج لنمط من التصرفات المختلفة ذات نزعة تجنح للتميز والتفرد بدأت واضحة بعد التغيير في الحكم عام 1995، فقطر ليست عمان ذات التباهي الإمبراطوري أو الرغبة في الابتعاد الاختياري، وليست الإمارات في الحجم أو المبادرة الاقتصادية، وليست الكويت التي اضطرت إلى التواضع والعيش في ظل توازن مع جيران أغلبيتهم ذات نزعة توسعية، كما أنها انغمست لتجربة ديمقراطية غير مناسبة للمرحلة (ليس هناك إنتاجية تسمح بالمسافات الكافية بين الأفراد والمؤسسات)، وليست البحرين المنشغلة بواقعها المعيشي والسياسي، وليست المملكة ذات البعد الجيوستراتيجي والتجربة التاريخية. ولكن قطر مختلفة بعد الثروة والشخصيات الجديدة.
الاحتمال الثاني الذي لا يبتعد كثيرا عن الأول وإن كان مختلفا يأتي فيما يذكر بن خلدون عن النزعة التي أصبحت شبه جينية - الرغبة العربية في السلطة (مصطلح ليس له مرادف مباشر في اللغة الإنجليزية ) (راجع "الاقتصادية": عصر الفهلوة العربية)، فهو يعني القوة والحكم، لكن ليس بالضرورة ذات بعد قانوني - فقانون القبيلة يسمح باغتصاب السلطة ثم تأسيس قواعد الشرعية تباعا، فقد ذكر الشيخ حمد بن خليفة في مقابلة سابقة أن القبائل العربية تسكن كل الدول العربية في تداخل بينها، لعله يغمز من هذا البعد. لم أسمع أحدا من حكام العرب يتحدث بهذه اللغة. رواسب وتأثير التصرفات القبلية لا تكفي لفهم الحالة، إذ لا يمكن استبعاد مصلحة الجميع في الاستقرار، خاصة أن البعد الدولي يتطلب سلامة مصادر الطاقة النفطية. فقطر تستند إلى بعد دولي متمثل في الوجود الأمريكي.
وهذا يجرنا إلى الاحتمال الثالث وهو ما تبشر به السياسات الأمريكية الجديدة في الحديث عن إعادة الهيكلة والفوضى الخلاقة أو الحفاظ على المنطقة في حالة سائلة لا تسمح لها بالتطور، لكن هذا يصعب قبوله منطقيا، خاصة بعد الفشل الذريع في العراق وأفغانستان وأخيرا ليبيا وسورية، كما أنه يعطي للغرب قوة قد لا تكون لديه. هذا الاحتمال يروق للكثير في المجتمعات العربية، لكن يصعب تحليليا أو إثباته عصي، خاصة أنه يعفي النخب من مسؤولية الكفاءة الإدارية، وهذا يقود إلى الاحتمال الرابع والأخير وهو البعد الفردي، فالفرد لدينا أهم من المؤسسة والنزعة الشخصية أهم من القاعدة الفكرية. لذلك لعلها حالة فردية عابرة لا يمكن أن تستمر لأن المقومات غير موجودة في المدى المتوسط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي