دعوة لمقاربة فقهية جديدة

الداعون إلى إعادة بناء الاجتهاد على أرضية مقاصد الشريعة، يرون في دعوتهم حلا لأبرز مشكلات الفقه المعاصر، أي الفجوة الفاصلة بين الرأي الفقهي وواقع الحياة المعاصرة. وهم يرون أن معيار سلامة الرأي الفقهي هو انسجامه مع المقاصد الشرعية، وأبرزها ــــ حسب ترتيب الشاطبي ــــ حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
هذه المقاربة تفترض معايرة لاحقة. بمعنى اختبار صلاحية الرأي بالنظر في تأثيره سلبا أو إيجابا في أحد المقاصد المذكورة.
إني أدعو إلى معادلة معكوسة تسمح ـــ في رأيي ــــ بتطوير جوهري في مفهوم الحكم الشرعي ومسارات الاجتهاد. كما تفسح مجالا رحبا للعلوم الجديدة والخبرات الإنسانية كي تسهم في الصناعة الفقهية.
في المعادلة الجديدة لا نبدأ بالسؤال عن الحكم، بل بتحديد موضوعات المقصد، وهي تشكل الجزء الأعظم من العمل العلمي الذي ينتهي بإصدار أحكام فقهية. فلنأخذ مثلا المقصد الخامس، وهو "حفظ العقل". هنا نبدأ بسؤال: ما العوامل التي تساعد في حفظ العقل، وما العوامل التي تسهم في إضعافه. وكلا السؤالين يتفرع إلى احتمالات. منها مثلا: معنى حفظ العقل، فهل معناه إبقاؤه في حالة ساكنة أم تطويره؟. هذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل يتطور العقل مع زيادة المعلومات أم نقصها، باستماعه إلى الآراء المتعارضة أم بجبره على مدرسة واحدة.
ناتج هذه المقاربة سيكون أحكاما شرعية من مستويين: أولها المستوى الإرشادي أي: السياسات اللازمة لتطوير العقول. وهذا يشكل جوابا على قضايا ملحة مثل تدفق المعلومات، وحرية التفكير والتعبير، وتعدد المذاهب والمدارس الفكرية، وتصنيف العلوم النافعة وغير النافعة... إلخ. وثانيها هو المستوى القانوني الذي قد يكون أحكاما فقهية أو قواعد قانونية ملزمة تعالج موقف المجتمع والدولة من تلك الأمور. وأظن أن اتخاذ مقاربة كهذه ستكشف أن تقييد حرية التعبير، وإنكار التعددية الفكرية، رجوعا إلى رأي فقيه أو بند قانوني، تنطوي على مخالفة لضرورات الشريعة.
كذلك الحال في المقصد الرابع أي حفظ المال، والذي يبدأ بحثه بسؤال معنى الحفظ وكيفيته والوسائل والطرق التي تؤدي إليه، والفرق بين المال الشخصي والمال العام. ويصل إلى الأحكام الإرشادية والقانونية التي تسهم في تنمية الثروة الفردية والعامة وتمنع تآكلها أو فسادها. هذا سيكشف لنا معاني أخرى لمفهوم الربا والاستغلال والقيمة الشرعية لفائض القيمة والفائدة... إلخ.
خلاصة القول إن هذه المقاربة تدور بشكل رئيس حول سؤال: كيف نجعل الفقه والقانون العام وسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة. ولهذا فهي تبدأ بدراسة تلك المقاصد وموضوعاتها التفصيلية وسبلها، وتنظر فيها كدليل لاستيضاح المصالح والمفاسد، وبالتالي الأحكام الشرعية. وأظن أن اتباعها سينتج فقها يستوعب التحديات التي يواجهها الإسلام اليوم، ويجسر الفجوة بين الدين والحياة العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي