أزمة أوكرانيا قد تدفع الاقتصاد العالمي إلى نفق مجهول
قبل نحو أسبوع كتب جيرمي وارنر مساعد رئيس تحرير صحيفة ديلي تلغراف البريطانية وأحد أكبر المعلقين الاقتصاديين في المملكة المتحدة مقالا تحت عنوان "هل البؤس الأوكراني سيكون البجعة السوداء المقبلة للأسواق المالية الغربية"، وفي متن المقال أعرب جيرمي عن موقفه قائلا "إن أوكرانيا اقتصاد صغير نسبيا، ولا تزال أكثر تكاملا بشكل عميق مع روسيا أكثر من أوروبا". وفي الواقع، فإن روسيا تعتبر دائما أوكرانيا ليس فقط دولة تابعة، ولكن أساسا جزء من روسيا، ولو افترضنا أن أوكرانيا اختفت من على وجه الأرض غدا، فستكون هناك بلا شك عواقب على روسيا، ولكن التأثير المباشر في الاقتصادات الغربية سيكون هامشيا أو غير موجود، ومع هذا فإن التجربة الاقتصادية تشير إلى أن الكوارث تأتي غالبا ممن لا نعتقد أنهم مهمون.
وتبدو قناعات جيرمي وآخرين من المعنيين بالشأن الاقتصادي منطقية بالنسبة للبعض، فالعلاقة المباشرة بين اقتصاد أوكرانيا والاقتصاد العالمي وتحديدا الغربي من الهزالة والضعف بحيث إن تأثير الأزمة الأوكرانية فيهم لن يذكر، ومع هذا فإنه وبعيدا عن الأبعاد الجيوسياسية للأزمة والصراع الراهن بين موسكو والغرب، فإن المعنيين بالشأن السياسي والاقتصادي الغربي يراقبون تداعيات الأزمة على الاقتصاد العالمي بدقة ومدى قدرته على الخروج من النفق المجهول للأزمة.
وترصد لـ "الاقتصادية" الدكتورة إيلينا كامبيل المختص في الاقتصاد الدولي والمستشارة في صندوق النقد مجموعة من الأسباب التي تجعل الغرب في قلق من الأبعاد الاقتصادية للأزمة الأوكرانية واتساع نطاقها، أول تلك الأسباب أن روسيا تمد الغرب بـ 25 في المائة من احتياجاته من الغاز، وذلك عبر أنابيب تمر بالأراضي الأوكرانية، وسبق لموسكو أن أوقفت إمدادات الغاز في الماضي جراء النزاع مع أوكرانيا، وبالطبع فإن أكبر المتضررين من وقف الغاز هي ألمانيا التي تعتمد على الغاز الروسي، ولذلك نلاحظ أن ألمانيا لها موقف مختلف من الأزمة مقارنة بالاقتصادات الغربية الكبرى مثل بريطانيا التي تعتمد على الغاز القطري.
وأضافت أنه "إذا توقفت إمدادات الغاز فإن سوق الطاقة العالمية قد تصاب بهزة ترفع الأسعار، ما يمثل عبئاً كبيرا على ميزانيات عديد من البلدان الصناعية الكبرى، في وقت لا تزال فيه تلك الاقتصادات في حالة تعاف من الأزمة الاقتصادية".
ولكن في الحقيقة فإن التداعيات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية قد تتجاوز حدود أوروبا، لتمتد إلى عديد من بلدان العالم الثالث، خاصة إذا شهدت كييف اندلاع حرب أهلية سواء امتدت للمناطق الريفية أم لا، فأسواق الحبوب العالمية وتحديدا القمح تراقب عن كثب ما يحدث في أوكرانيا، فكييف إحدى أكبر مصدري القمح والذرة في العالم، ويمكن أن تشهد الأسعار ارتفاعا حاداً خلال الشهور المقبلة إذا أخذت الأزمة منحنيات دموية.
وحتى الآن فإن التقارير الواردة من أوكرانيا تشير إلى أن المزارعين قاموا بتخزين كميات ضخمة من الحبوب استعدادا للتصدير إذا ما استقرت الأوضاع وارتفعت قيمة العملة الأوكرانية "الهريفينا"، ومع هذا فإن البنك الدولي حذر من أن الأزمة قد تضعف على الأمد الطويل الزراعة في أوكرانيا جراء ارتفاع أسعار الأسمدة المستوردة، وإذا كان التراجع الراهن لقيمة "الهريفنيا" له تأثير إيجابي فيما يتعلق بزيادة قدرتها التنافسية في السوق الدولية، فإن هذا قد يذهب هباء إذا ما اندلع صراع مسلح في البلاد وفقدت البلاد قدرتها التصديرية للقمح أو الذرة.
ولـ "الاقتصادية" يعلق الدكتور بيركيت بلير أستاذ مادة المحاصيل الزراعية في جامعة ريدينج، بأن أوكرانيا تعرف بأنها سلة خبز أوروبا، وتوقعات مجلس الحبوب العالمي تشير إلى أنها ستكون ثاني أكبر مصدر للحبوب هذا العام، وإدارة الزراعة الأمريكية تتوقع أن تبلغ صادرات أوكرانيا من الحبوب لهذا العام عشرة ملايين طن، وأعتقد أنه لن توجد مشكلة حادة فيما يتعلق بالإنتاج والصادرات الأوكرانية من القمح والذرة هذا الموسم، وربما تكون هناك زيادة طفيفة في الأسعار، إذ إن المصدرين أضافوا ما يمكن اعتباره رسوما للمخاطرة على عمليات التصدير حاليا، ولكنها لن تؤثر في الأسعار بشكل جذري.
وأضاف أن "المشكلة ستحدث إذا تواصلت الأزمة ولم يعد بمقدار المزارعين الزراعة للعام المقبل، هذا يعني الاعتماد بصورة أكبر على المخزون الاحتياطي الموجود في كل دولة لسد الاحتياجات الداخلية، وهذا سيرفع أسعار الحبوب وتحديدا القمح والذرة عالميا".
ويعتقد بعض أن المزارعين في أوكرانيا يتعمدون تخزين المحصول حاليا جراء تراجع قيمة العملة الأوكرانية، وبمجرد ارتفاع قيمتها فإنهم سيقومون ببيع المخزن لديهم من الحبوب، وقبل عشرة أعوام كانت أوكرانيا وروسيا تمثلان معا 3 في المائة من تجارة القمح العالمية، بينما الآن تسيطران على 17 في المائة من تلك التجارة الحيوية، وتعد كييف خامس أكبر مصدر للقمح في العالم وثالث أكبر مصدر للذرة، ويتوقع أن تصدر 16 في المائة من صادرات الذرة العالمية.
وسط هذه التوقعات يبدو البعض أكثر تشاؤما حول أبعاد الأزمة الأوكرانية على الاقتصاد العالمي، فالدكتورة جيتا سيلفيستر أستاذة مادة الاقتصاد الدولي في جامعة مانشيستر تعتقد أن الجميع يغفل عند تحليل التداعيات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية عن نظرية "الدومينو" وهي أن انهيار جزء من النظام يؤدي إلى انهيار النظام كله.
ولـ "الاقتصادية" تعلق "ربما لا تتأثر أسواق الحبوب العالمية بشكل كبير وحاد بالصراع في أوكرانيا، ولكن المصاعب التي ستتولد في بلد كالصين جراء هذه الأزمة ستفجر حتما أزمات في مناطق أخرى"، مضيفة أن "الصين ستتأثر حتما إذا تدهور الوضع، لأن أوكرانيا أحد الموردين الرئيسيين للقمح والذرة للصين، والتأثير ربما يكون محدودا لأن كييف ليست المصدر الأساسي للصين، ولكن بكين ستعوض النقص بزيادة الطلب من أستراليا، ما سينعكس بالطبع على صادرات أستراليا لباقي الدول الآسيوية، التي ستزيد من وارداتها من بلدان وسط آسيا، ما يعني أن بلدان الشرق الأوسط التي تستورد القمح من بلدان وسط آسيا قد تواجه مشكلة فيما يتعلق بتوفير احتياجاتها، أضف إلى ذلك أنه إذا شهدت المناطق الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية جفافا هذا العام، فإن العالم قد يواجه أزمة حادة في سوق الحبوب، فالصين استوردت كميات قياسية من الذرة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي أغلبها من أمريكا، مع زيادة وارداتها من أوكرانيا بعد توقيع اتفاقية عام 2012 منحت بمقتضاها قرضاً لأوكرانيا مقابل الذرة، وتسد أوكرانيا نحو 8 في المائة من احتياجات الصين في مجال الذرة، وهذه نسبة لا بأس بها بالنسبة لدولة في حجم الصين".
ويبدو أن تأثير نظرية "الدومينو" أكثر خطورة وأسرع تأثيرا في المجال المالي، فالموجة الأولى من الهزة التي ضربت الاقتصادات الناشئة لم تصب روسيا، بل نالت من بلدان مثل تركيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، فالاحتياطات الضخمة من النفط والغاز مكنا روسيا من الحفاظ على مصادر مالية ضخمة، واحتفاظ موسكو بنحو 500 مليار دولار احتياطي نقدي – ثالث أكبر احتياطي مالي في العالم- ساعدها كذلك على مواجهة الموجة الأولى من الاضطراب الاقتصادي في الاقتصادات الناشئة، ومع هذا فإن الأمر لم يمض بلا خسائر بالنسبة لموسكو، فقد أنفق البنك المركزي الروسي 200 مليار للحفاظ على قيمة الروبل، الذي تراجع الآن أمام الدولار بنحو 10 في المائة، بينما تراجعت المخرجات الصناعية العام الماضي والاستثمارات الثابتة انخفضت بنحو 7 في المائة، فإذا أخذنا في الاعتبار أن إجمالي حجم الدين الخارجي لأوكرانيا يبلغ نحو 60 مليار يورو، أغلبها للبنوك الروسية فإن الأزمة الأوكرانية ربما تؤدي إلى انفجار أزمة مالية عالمية جديدة.
ولـ "الاقتصادية" يعلق ديفيد بارتون المستشار المالي في بنك لويدز قائلا "أوكرانيا برميل بارود يمكن أن يفجر النظام المالي العالمي، فبنكا Sber وVTB أكبر حاملين لسندات الخزانة الأوكرانية، وإذا عجزت أوكرانيا عن سداد ديونها لروسيا فإن النظام المالي الروسي سيتأثر وسيأخذ معه عديدا من المصارف الأوروبية والعالمية، وعلينا أن نأخذ في الحسبان أن الاحتياطي النقدي الأوكراني تراجع لمستويات حرجة".
وأضاف أن "الذي أبقى الاقتصاد الأوكراني في حالة "طوفان" ومنعه من الغرق هو القرض الذي قدمته موسكو لكييف بقيمة ثلاثة مليارات دولار، كجزء من قرض بقيمة 15 مليار دولار، لكن موسكو جمدت الآن باقي القرض، وأوكرانيا ليست دولة مؤثرة اقتصاديا لكنها إذا سقطت فستأخذ روسيا معها، وهنا تكمن الكارثة، فالاقتصاد العالمي لن يتحمل انهيار الاقتصاد الروسي".
ويتخوف البعض من أن تؤدي الحسابات السياسية الخاطئة إلى كوارث اقتصادية، فاقتراحات البعض بفرض عقوبات وحظر اقتصادي على روسيا، بل ومغالاة آخرين بطلب طردها من مجموعة الثمانية يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي، فعدد من الاقتصاديين المحافظين يؤكدون أن زيادة الضغط الاقتصادي على روسيا، وسيلة ردع أساسية لإجبارها على إعادة النظر في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم.
وصرح جونثان مكارثي الاقتصادي الأمريكي لهيئة الإذاعة البريطانية قائلا "الحقيقة أن روسيا تعتمد بشكل كبير على الغرب وتحديدا بلدان الاتحاد الأوروبي، فنصف التجارة الخارجية لروسيا يذهب إلى الاتحاد الأوروبي، وموسكو تعتمد على السلع الغربية للحفاظ على ارتفاع مستوى المعيشة الذي تحقق في السنوات الماضية، والضغط على هذا سيردع موسكو". وأضاف أن "طرد روسيا من مجموعة الثمانية أو تجميد عضويتها سيحمل رسالة اقتصادية قوية لها بضخامة التكلفة الاقتصادية لسياستها تجاه أوكرانيا".
إلا ان تلك النظرة تواجه باعتراض شديد من قبل الدكتورة جيتا سيلفيستر أستاذة مادة الاقتصاد الدولي في جامعة مانشيستر، ولـ "الاقتصادية" تشير إلى أن طرد روسيا أو فرض عقوبات اقتصادية عليها يعني إشعال حرب اقتصادية على المستوى العالمي، في وقت لم يتعاف فيه الاقتصاد الدولي بعد، وتتعرض فيه اقتصادات البلدان الناشئة لهزة لم تتكشف كامل أبعادها حتى الآن.
وأضافت أن "الدخول في مواجهة اقتصادية مع موسكو يعني فشل خطة مجموعة العشرين أخيرا بضخ ترليوني دولار على مدار خمس سنوات لتعزيز النمو العالمي"، وتتفق الدكتورة جيتا مع الصحفي البريطاني جيرمي وارنر بأن أوكرانيا كدولة لا يؤثر اقتصادها في الاقتصاد العالمي، ولكن أوكرانيا برميل بارود، إذ انفجر فإن نيرانه لن تحرق أوكرانيا فقط بل ستمتد لروسيا، وسيكون من الصعب للغاية إطفاؤها، وستطال الجميع، فعديد من الكوارث الاقتصادية لربما يأتي من استهتار اللاعبين الكبار بالاقتصادات الصغيرة.