سورية.. والصمم الأيديولوجي
النخب العربية التي ناضلت من أجل التحرر من الهيمنة والاستبداد وهتفت ضد الإمبريالية والرجعية يمكن فهم موقفها وتبريره أثناء معارك تقرير المصير والحرب الباردة .. لكن "التحجر" عند تلك الشعارات وقد تغير الناس والزمن، هو ما لا يمكن فهمه وتبريره، فقانون التطور والتغير يقول: "إنك لا تسبح في مياه النهر مرتين" على حد تعبير ديموقريطس قبل نحو 2500 عام.
وحين يهرول بعض النخبة اليوم وراء العمائم والطغاة لمجرد أنهم يرفعون الشعار ذاته فهذا ما لا يمكن فهمه أو تبريره، بينما يمكن ـــ على سبيل المثال ـــ فهم وتبرير أن يملأ الإعلامي الروسي مآتروف الفضائيات العربية ممعنا في طمس الحقيقة والدفاع عن النظام السوري بمغالطات تحليلاته السياسية المستفزة فهو يقوم بدور الناطق الرسمي عن سياسة الكريملين .. أما أن تصر بعض النخب العربية على أن نظام بشار يمثل جسارة الممانعة ونضارة العلمانية وتتبعه بالتأييد لمواقف حزب الله والافتتان بخطب سيده، فالأمر لا سبيل إلى فهمه وتبريره إلا على أنه صمم أيديولوجي.
في الأيام الأولى لتفجر الثورة السورية خرج علينا زعماء لبنانيون مثل: حسن نصر الله وميشيل عون ووئام وهاب وغيرهم من جوقة 8 آذار، مثلما خرجت في سورية بثينة شعبان ووليد المعلم وغيرهما يؤكدون أن هذا "الشغب" سينتهي في غضون أسبوعين أو ثلاثة .. غير أن الشعب السوري الهادر ما زال صامدا رغم الخذلان الدولي وآلة الحرب البشعة بعشرات آلاف البراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي تمطر مدنه بالهلاك وتدكها بمليشيات ومرتزقة حزب الله والحرس الثوري الإيراني ونوري المالكي وإمدادات بواخر سلاح بوتن وخبرائه.. ومع ذلك فإن تلك الأصوات اللبنانية والسورية بلعت لسانها (الأسبوعي) وأخذت تجدف في هراء المؤامرة الكونية.
إن موقف هذه النخب، ممن تشربوا شعارات قسمة العالم إلى فسطاطين: إمبريالي وتقدمي عمد، في مفارقة عجيبة، إلى استبدال "لينين" و"ساطع الحصري" بالأسد وحسن نصر الله وأزاح القومية والأممية والعلمانية والتعددية بالطائفية وولايه الفقيه والملالي واستعاض عن الشعوب والجماهير بآيات الله والشبيحة، وأشاح عن الديمقراطية والحرية نحو الثيوقراطية والأوتقراطية.
استخلف هؤلاء النخبة ماضيا نضاليا يستشرف التقدم يحاضر خطابه وفعله نحر أي أمل بالتقدم مغالطين حقائق تهاوي كل الأقنعة بممانعة لم تقو ولو على ضربة كف على جبهة الجولان لأربعين عاما، وحزب لم يتسع صدره حتى لمؤسسة "ميشيل عفلق" فحكم عليه بالإعدام غيابيا، فضلا عن احتلاله للبنان الذي طرد منه بقرار أممي بعدما أذاق شعبه الويلات واغتال زعماءه وساسته، وها هو يدير على مدى ثلاث سنوات حربه الأكثر همجية وقذارة في التاريخ ولتصبح هذه المحرقة الرهيبة وهذا المسلخ الفظيع هما عنوان الكفاح ضد الإمبريالية والرجعية .. فهل يمكن أن يكون كل هذا مما يتعذر إدراكه؟
من المؤكد أن كل ذلك يعد ليس قابلا للمزايدة والمغالطة، وإنما للإدانة والانقلاب الشجاع على الذات، لكن ذلك يتطلب بالضرورة توافر شرط الشفاء من الصمم الأيديولوجي. وهو شفاء، إن لم يطلبه هؤلاء، فإرادة الشعب السوري كفيلة بتقديمه لهم في مقبل الأيام!