التعالي على القانون .. معضلة التنمية
التنمية الوطنية قرار مجتمعي، وعمل منسق مشترك، واستكشاف وتحريك للموارد في اتجاه نقل المجتمع إلى مرحلة متقدمة من التطور الاقتصادي والتحضر الاجتماعي. ويقع في جوهر العمل التنموي رغبة الأفراد والمؤسسات في المجتمع على إحداث التغيير المطلوب. هذا شرط أساسي ومهم لأن نجاح جهود التنمية مرهون بمدى التزام المؤسسات والأفراد بتحقيق أهدافها. والالتزام أمر ليس بالسهل إذ يعني تطويع المصالح الشخصية لخدمة المصلحة العامة، والتخلي عن الفرص التي ربما تغري الأفراد بالخروج عن النسق المتفق عليه. وهنا يبرز تساؤل على درجة كبيرة من الأهمية وهو: كيف يمكن تحفيز الأفراد ومنحهم فرصة المنافسة وتحقيق طموحاتهم الشخصية وزيادة إنتاجيتهم ودخولهم ولكن داخل إطار العمل الوطني المشترك وبأسلوب يسهم في الوصول إلى الأهداف الوطنية الاستراتيجية؟ الإجابة عن هذا التساؤل هي ما يصنع الفرق بين المجتمعات المتقدمة والنامية. فسر تفوق المجتمعات هو في سياساتها وخططها واستراتيجياتها وأنظمتها التي وضعت بطريقة تضمن ذلك التوازن بين دافعية الفرد وسعيه في تحسين دخله وتحقيق المصلحة الوطنية. وهذا يتطلب أمرين رئيسين: الأول أن يتولى مجلس الشورى كمجلس نيابي مهمة صياغة الرؤية الاستراتيجية الوطنية على المدى الطويل ووضع التشريعات والأنظمة الكفيلة باستخدام الموارد الوطنية لتحقيقها، ويكون مسؤولا عن متابعتها وتقويمها بالمساءلة "الاستجواب". الأمر الآخر إلزام الجميع دون استثناء بتطبيق الخطة الوطنية وعدم السماح بأي تراخيص أو منح خارج إطار الخطة. لكن في واقع الحال تتولى البيروقراطيات العامة هذه المهمة، وهي ليست مؤهلة للقيام بها لأنها أجهزة إدارية متشرذمة، لا تعكس الرأي العام في المجتمع وتسيطر عليها النظرة الجهوية الضيقة. فمصلحة الجهاز الإداري مقدمة على المصالح الوطنية العليا. ومن ثم نرى تناقضا عجيبا بين سياسات الأجهزة الحكومية يكاد يصل حد التصادم. وأفرز مثل هذا الوضع نهجاً فيما بين الأجهزة الحكومية مبنياً على الاستحواذ والحصول على أكبر قدر من المخصصات المالية والموارد البشرية دون ربط ذلك بالأداء والمخرجات والنتائج والتأثير النهائي في المجتمع. وفي ظل غياب استراتيجية وطنية متكاملة يبدو هذا الربط بين المدخلات والمخرجات غير واضح، على الأقل بالنسبة للعموم، وقد يستمر ذلك الوضع على النهج ذاته تعززه جهود النافذين في الحصول على العقود الحكومية السخية التي يتم تنفيذها بمعايير متدنية. كما أن هذا الوضع مرتع خصب للفساد الإداري والمالي؛ إذ ليس هناك مراقبة مجتمعية من قبل المجالس النيابية، وليس هناك تقويم على أساس مرجعية وطنية؛ وما يتم ليس أكثر من تلبية لاحتياجات آنية لفئات مختلفة من المجتمع.
إن تفرد البيروقراطيات بصناعة القرار العام دون توجيه ومتابعة ومساءلة من قبل المجالس النيابية يؤدي إلى حدوث انفلات بيروقراطي "ذكرته في أكثر من مقال سابق" وهو أمر خطير جداً؛ إذ يوجد هوة واسعة بين صانع القرار والمواطن. كما أن القرارات لا تأخذ في عين الاعتبار مسألة الاستدامة وحفظ حقوق الأجيال المقبلة؛ فيكون تركيز الإنفاق على الاستهلاك الحاضر دون الإعداد للمستقبل. جميع ذلك يخلق حالة من الفوضى الاقتصادية والإدارية غير مرئية وغير مدركة لكن تأثيراتها المستقبلة جدُّ خطيرة على أمن وسلامة وقوة المجتمع، والبطالة والفقر والجريمة والتلوث شواهد على أن هذه الظواهر السلبية بدأت تطل برأسها على المجتمع، وهي تتفاقم بشكل لافت للنظر مع مرور الوقت. وإذا لم يتم تداركها ستتحول إلى طود كبير يهدد أمننا واستقرارنا، ولا يمكن تداركها إلا من خلال إعادة ترتيب العمل المؤسسي الحكومي في الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ومنح المجالس النيابية "الشورى، المناطق، المحلية، والبلدية" سلطات تشريعية نافذة وملزمة للأجهزة التنفيذية الحكومية؛ لتكون المجالس النيابية وسيلة في التعرف على التفضيلات والاحتياجات والتوجهات العامة في المجتمع وإدراك التغيرات وتطويعها في تحقيق المصالح العليا للوطن.
إن تغييب المجالس النيابية وعدم منحها صلاحيات التشريع والمساءلة أدى إلى تسيب في الأداء الحكومي، فحتى التنظيمات البيروقراطية التي تعكس الرؤية الجهوية وليس بالضرورة المصلحة العامة بالكاد تطبق. وإذا كان من السهل وضع التنظيمات فمن الصعب تطبيقها، ومكمن الصعوبة في أن هناك من يرى أنه فوق القانون، وأنه يحق له ما لا يحق لغيره. هذه النظرة الفوقية الأنانية لا تقف تأثيراتها عند أصحابها؛ بل تتعداهم لتتفشى في المجتمع، وتتحول إلى ثقافة حتى يرى الكثيرون أن مخالفة القانون تميز، وأن القفز عليه مفخرة وإنجاز يصفق له الجميع. وهكذا تتولد في المجتمع ثقافة عدم احترام القانون والتعالي عليه؛ بل والاعتقاد أن القانون يعطل المصالح ويقف حجر عثرة أمام تحقيق طموحاتهم، ويبدأ الكثيرون في شرعنة مخالفة النظام والسعي للحصول على مبتغاهم بطرق شرعية وغير شرعية. كيف لا وهم يرون أن من وضع النظام هو أول من يخالفه! هذه هي قاصمة الظهر بالنسبة للعمل التنموي، وتصيبه في مقتل؛ فيكون مصيره الفشل حتى وإن كانت هناك إنجازات وقتية هنا وهناك؛ لأنه يفتقد أهم مقوماته، وهو الانتظام في عمل مشترك يؤدي إلى منفعة جماعية يراها ويحسها ويؤمن بها الأفراد في المجتمع.
إن الانتماء الوطني ليس عواطف جياشة، ولا علاقة عصبية وتفاخرا بالتاريخ؛ وإنما هو إذكاء الروح الوطنية العملية من خلال عمل مؤسسي يضمن وحدة الهدف والمصير المشترك ويجعل الجميع على بينة من الأمر من تحقيق المصلحة العامة، وبما يعود بالنفع على الفرد بناءً على مقدار إسهامه في تحقيقها. لكن يبقى شرط احترام القانون العام أساسا في تحقيق ذلك، وإلا سيكون أي عمل تنموي شكلياً، ووثائق منتفخة تملأ الأدراج وتزين مكاتب المسؤولين لا أكثر. إن اعتقاد أحدهم أنه فوق القانون هو معضلة التنمية الوطنية، وهو المصدر الأساسي للفساد الإداري والمالي وتراجع الأداء الحكومي. والحل فيما قاله خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله "سيادة القانون على أي مواطن كائناً من كان".