علاج الموسيقى المرفوض
من كل السرد في مقالاتي السابقة في تجربتي مع توحد بنتي، يبدو جليا كيف أن الواقع الحالي محزن ومؤسف، ومع القرب من قصص أخرى عديدة يتضح أن الاهتمام بكل عالم الاحتياجات الخاصة ما زال ضئيلا صغيرا، يطمح الكل إلى أن ينمو ويتأصل ويتكامل بشكل أكبر.
فالتخصصات التي تدرّس مجال الاحتياجات متوافرة، والخريجون موجودون والأطفال يزيدون، لا توجد إحصائية واضحة حتى اليوم تحصر العدد وتوثقه على الرغم من وجود الأبحاث في المراكز والجامعات، يبدو أنها أزمة تنسيق وتكامل جهود بين المراكز والجامعات والمتخصصين. أزمة "إدارة" بلا شك حين لا يكون لدينا حتى اليوم رقم واضح عن عدد المصابين بالتوحد في المملكة على الرغم من زيادتهم في الآونة الأخيرة. ولا توجد رؤية واضحة تشخص الحاضر وتطرح خطة للمستقبل نترقبها ونشارك فيها.
هذا الواقع يضع على الأهل مسؤولية كبيرة تجاه أبنائهم على الأقل ليعتمدوا على أنفسهم في التأهيل، فيقرؤون من باب الإنترنت العظيم ما استطاعوا.
غادة بعد "النكسة" لا تطيل النظر إليَّ إلا بجزء من الثانية، تواصلها البصري بعيني قصير، تفعل ذلك مع كل من يحدّثها لا تنظر إليه طويلا خصوصا في الفترة الأولى لإصابتها. في يوم كنت قد فتحت لها في الـ "يوتيوب" أغنية إنجليزية للأطفال مع رقص باليه، ففوجئت بأنها تركت ما بيدها وجاءت تركض وعينها لا تفارق المقطع، كانت تنظر إلى رقصهم وتسمع الموسيقى بشغف شديد.
وطلبت مني أن أعيده إليها مرارا بعدما انتهت فكرت أنه قد تكون الموسيقى علاجا لها ولم أسمع بهذا من قبل، كتبت في "جوجل" باللغة الإنجليزية العلاج بالموسيقى فإذا بمقالات وأبحاث لا تنتهي، وإذا بالعلاج موجود ومعروف في العالم الأول. بحثت عن مراكز تدرس الباليه وبدأت بدروس خاصة مع مدربة إيرلندية، لم تعط من قبل درس باليه لطفل توحد تحمست معي كثيرا للفكرة.
الجميل في تلك المدربة أن لديها أذنا موسيقية ساعدت غادة على التحرك بحسب النغمة، فموسيقى رقصة الحصان توحي بحركة الحصان، ومثلها رقصة الفراشة، ودروس تصل للساعة معها تكون عين غادة فيها لا تفارق المدربة طوال الوقت، وهذا بالنسبة لي كان أشبه بالمعجزة؛ لأن غادة لا تطيل النظر في وجه أحد.
تحمست كثيرا مع تلك الدروس، لكن تلك المدربة لم تستمر وجاءت بعدها أخرى حسها الموسيقي أقل لم تتمكن كما يجب من توفيق الرقصة بالنغم.
في تلك الدروس الأولى كنت أتأمل مخترع الباليه، وكم الجمال الذي يشعر به حين أوجد تلك الحركات التي بإمكان راقصها أن يتقمص الكائنات والطبيعة بنغم يتماهى ويتمايل جذوة وحبا وروعة.
وكيف حالنا ونحن غائبون تماما عن عوالم الجمال!
أردت أن يسعد أطفال آخرون فكنت أنشر الفكرة ما استطعت، وجدت باحثا سعوديا كتب رسالة الماجستير عن أثر الموسيقى في علاج الاحتياجات الخاصة. وحين أقترح الموسيقى لأي مركز أو مسؤولة مركز تقول لي إن المسؤولين لن يسمحوا لها.
فعلا الموسيقى مرفوضة ممن لم ولن يتذوق الجمال، وهي مرفوضة ممن لم يوجعه هذا الخمول في أطفالنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومرفوضة من كل مَنْ يعتقد أن الإتقان والإبداع وتحمُّل المسؤولية والعمل بجد والعلم بجد ليس واجبا ضروريا. نعم، الموسيقى مرفوضة من أمة شكاءة بكاءة اعتادت الموت والقتل والضعف وحياة العالة على الأرض.