جمعية «مودة» وحياكة النسيج الأسري
الأقمشة الثمينة هي تلك الأقمشة عالية الجودة من جهة خيوطها وحياكتها وألوانها، وهي تتجاوز مهمتها الأساسية المتمثلة في الحماية والستر إلى التعبير عن شخصية لابسيها كما تنشر البهجة والسرور بين الناظرين إليها.
لاشك أن نسج الخيوط وحياكتها يعتبر العنصر الأهم في قوة الأقمشة وتماسكها وقدرتها على مواجهة تحديات الظروف المناخية وشدة الاستخدام، لذلك نجد أقمشة تمتد لسنوات طويلة محافظة على جودتها وأخرى لا تقاوم ظروف الاستعمال، فسرعان ما تتلف وتتمزق وتنتهي.
كلمة نسيج استخدمت مجازياً للتعبير عن تماسك مكونات المجتمع، وهي الأسرة التي هي الأخرى عبارة عن نسيج أصغر مكوناته الزوج والزوجة والأبناء، وكلما كانت حياكة النسيج الأسري قوية كانت حياكة النسيج الاجتماعي قوية كذلك، فقوة الكل تتأثر بقوة الجزء بكل تأكيد. وبالتالي فإن النسيج الأسري أساس النسيج الاجتماعي الذي تتكامل فيه وتتآزر العلاقات بين الوحدات والنظم الاجتماعية المختلفة، والعلاقة الأسرية الحانية بين الزوجين - وهما أساس النسيج الأسري - تنعكس إيجابياً على سلوك بقية مكوناته من الأبناء والبنات بما يؤدي إلى تلبية حاجاتهم الضرورية الأساسية من غذاء ولباس ومحبة وأمن صحي وغذائي ونفسي واجتماعي وأخلاقي ... إلخ".
تهتك النسيج الأسري بسكاكين الخصام والشجار والملاسنة لأي سبب كان أمام الأبناء يولد شرخاً كبيراً بين الأبناء من الصعب إصلاحه، إذ عادة ما يكون هذا الشرخ الشرارة الأولى للانحراف والانتقال لعالم الجنح والجنايات، فما بالنا إذا وصل الأمر بين الزوجين إلى الطلاق والصراع على الأبناء وغيرها من الحقوق بين الأهل والأقارب وفي قاعات المحاكم، والدراسات تقول إن الجانحين ينتمون إلى أسر مفككة، حيث إن أحد الخبراء في ميدان "الأحداث" في السعودية لاحظ أن 75 في المائة من حالات الإيداع المؤسسي أبناء أسر مفككة.
سمعت أحد الإخصائيين الاجتماعيين يصف الطلاق بالنسبة للأبناء والبنات، خصوصا الأطفال منهم، بأنه زلزال أسري بقوة تسع درجات على مقياس ريختر، وهي قوة تكفي لتدمير المدينة التي يضربها بالكامل، وقال إن الطلاق زلزال مُدمر له تداعياته على أفراد الأسرة وعادة ما تمتد هذه التداعيات طول العمر في حالات كثيرة وتنعكس سلباً على أي أسرة يكونها أحد أفراد هذه العائلة المفككة، وكأننا نكون هنا في متتالية مشاكل تفتت النسيج الاجتماعي.
وإذا كان النسيج الأسري أساس النسيج الاجتماعي وتتهدده اليوم مخاطر كثيرة، خصوصاً بعد انتشار تقنية الاتصالات الحديثة التي باتت تنخر في النسيج الأسري بشكل كبير، وكم من مشاكل حادة وقعت بين الأزواج وأدت إلى الانفصال على أرض الواقع دون طلاق رسمي أو بطلاق رسمي بسبب هذه التقنية، وإذا علمنا أن نسبة الطلاق في المملكة تصل إلى 35 في المائة وأن معظمها تقع في الأزواج من فئة الأعمار من 20 إلى 30 سنة، وأن أكثر حالات الطلاق - بحسب بيانات وزارة العدل السعودية - جاءت من "فئة السعودي المتزوج من سعودية" بنسبة 90 في المائة من إجمالي حالات الطلاق، بأكثر من 27 ألف حالة من أصل 30 ألف حالة خلال عام 2012، كما ورد في دراسة أعدتها "وحدة التقارير الاقتصادية" في صحيفة "الاقتصادية"، أقول إذا علمنا كل ذلك فما الآثار السلبية على كل ذلك خصوصا أن نسبة الطلاق تزداد سنوياً؟ وماذا علينا أن نفعل للحد من ذلك؟
مؤسسات المجتمع المدني تمثل أفراد المجتمع، وهي صيغة رسمية من صيغ التكافل الاجتماعي، حيث يتكافل عدد من أفراد المجتمع ليؤسسوا مؤسسة مجتمع مدني للتصدي لقضية أو مشكلة معينة بجهود أهلية تتكامل مع الجهود الحكومية لتعزيز التنمية أو لحماية المجتمع من مشاكله، وبكل تأكيد لا يمكن الحد من الطلاق وآثاره إلا من خلال مؤسسة مدنية تنتظم فيها أفكار وجهود أفراد المجتمع لتوجه بشكل مخطط ومنظم ومركز نحو المعالجة الفاعلة القائمة على التحليل العملي السليم المستند إلى البحوث والدراسات الدقيقة والحديثة والشاملة والمستمرة، وبكل تأكيد أي جمعية تؤسس لهذه الغاية وتترك دون دعم من جميع أفراد المجتمع ومؤسساته وأجهزة الدولة الحكومية لا يمكن أن تنهض بمسؤولياتها الجسام وسيكون أثرها ضعيفا جداً ولا يحقق غاية التكافل الاجتماعي التي أنشئت في إطاره.
جمعية مودة للحد من الطلاق وآثاره تنهض بمهمة مهمة وحيوية، بل ضرورية جداً، وهي مهمة أكثر من نبيلة لكونها تسهم بشكل كبير في حياكة النسيج الأسري ليكون نسيجاً قوياً قادراً على مواجهة الظروف والتحديات التي تزايدت وتعاظمت لأسباب عدة، وجمعية مودة تسعى لتكون الأسرة السعودية مستقرة في جميع أحوالها حتى إن وقع الطلاق، وذلك من خلال طرح حلول شمولية تعالج أسباب الطلاق وأسباب نمو آثاره السلبية، خصوصاً في الجوانب التوعوية والقانونية والاقتصادية، والجمعية كما علمت حققت إنجازات مهمة جداً في مساراتها الاستراتيجية وأصبحت على علاقة وثيقة بالأجهزة الحكومية ذات الصلة بالمعالجات الشمولية، خصوصاً وزارات: العدل، والشؤون، والعمل، إلا أنه بكل تأكيد ما زال أمام الجمعية مسيرة طويلة، ولا يمكن كما يبدو لي أن تحققها دون موارد مالية كبيرة ومستدامة، فالمسؤولية كبرى والموارد ضعيفة.
ختاماً أود أن أؤكد أنه لا يوجد في عالم البشر ما يسمى "نفايات" يمكن أن نرميها خارج المجتمع، وبالتالي علينا أن ندعم جمعية مودة لرفع كفاءتها في حياكة النسيج الأسري بما يجعله قويا وعصيا على الطلاق وآثاره، وأدعو الميسورين من أبناء بلادنا والشركات التي تنهض بمسؤولياتها الاجتماعية أن تلتفت بشكل جاد لمشكلة الطلاق للحد منها ومن آثارها، خصوصا أن الكثير من الأبناء الذين غيب آباءهم الطلاق يعانون أشد مما يعانيه الأيتام الذين غيب آباءهم الموت.