اختبارات الابتدائية والعودة إلى المربع الأول
منذ بدأ التعليم في المملكة يأخذ طابعاً رسمياً وظهرت المعارف أولاً ثم وزارة التربية والتعليم ونحن ندور في حلقة مفرغة، فما إن ندخل تجربة تعليمية حتى نوقفها ثم نبدأ تجربة جديدة ثم نوقفها، ونعود إلى سابق التجارب، عقود طويلة من التجربة والخطأ حتى الآن لم نهتد إلى منهج للتعليم والتعلم. لقد بذلت الدولة جهوداً جبارة لا ينكرها إلا جاحد من أجل التربية والتعليم، وهناك الآلاف من المدارس والمعلمين والمعلمات، ووزارة التربية والتعليم تقتطع نصيب ثلاثة أسود من الميزانية العامة، ومع ذلك لم تزل التجربة التعليمية بلا هدى ولا كتاب منير.
فأين تقع المشكلة؟ هل في غياب الفلسفة العلمية؟ فما العلم لدينا؟ وكيف نصل للحقيقة العلمية؟ وما دور المعلم والطالب؟ وهل الوجود يمثل حقيقة علمية مطلقة لذلك يكفي للطالب أن يحفظها لنقول "متعلم" أو أنها لم تزل غير مؤكدة، وما لدينا هو التجربة العلمية الإنسانية، وعلى الطالب أن يتعلم كيف يصنع تجربته ورؤيته عن العالم؟ هل الفكر لدينا حر أم مقيد وإلى أي درجة في كلا الاتجاهين؟ فالإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة هي التي توجه العملية التعليمية، التي ستمتد من مجرد الحفظ والتلقين على أساس أن ما وصل إليه العلم هو حقيقة لا لبس فيها، وأن دور الطالب هو حفظها فقط حتى الشك في كل ما لدينا مما وصلت إليه العلوم، وأن دورنا يجب أن يتجاوز الحاضر نحو بناء منظومة علمية جديدة لمستقبل جديد، وأن نشارك بقوة في هذا البناء، كما ستمتد من تقييد للفكر ليعاقب الطالب إذا أضاف أو تجنّب الطريق المرسوم له حتى حرية الرأي والحوار المفتوح حتى لو طالت ثوابت علمية يصعب النقاش فيها. فإذا تم اختيار البناء الفكري للطالب، فإن القضايا الأخرى لا تعدو شكلية لتؤكد المفاهيم السابقة وترسخها، فالاختبارات التحريرية ليست سوى أسلوب تقويمي، لترسيخ مبادئ علمية، يجب التأكد أن الطالب قد استوعبها، فإذا كنا تابعين ومستهلكين للعمل فقط، فإن الاختبارات لن تتجاوز عبارات مثل ما هي، وأين هو، واختر الإجابة الصحيحة. وأما إذا كانت الحرية الفكرية هي سيدة الموقف، فإن الأسئلة ستصل إلى ما رأيك؟ وكيف تجد ذلك؟ وقيّم الرأي القائل؟ وما أدواتك؟ وأين ستجد تلك القضية؟ فالأسئلة والاختبارات ستكون حاضرة، لكن نوع الأسئلة هو مدار الفكر والتعليم.
هنا نقف متسائلين عن قرار وزارة التربية والتعليم بإلزام معلمي المرحلة الابتدائية بإجراء اختبارات تحريرية تجريبية للطلاب بواقع ثلاثة امتحانات. فالمسألة ليست تنفيذ الاختبارات، بل نوع الأسئلة التقويمية. لقد عانت الوزارة منذ نشأتها مما سُمي باجتهادات الميدان، وهي رغبة المعلمين في فرض تجربتهم التعليمية وتفسيراتهم للعلم على الطلاب بغض النظر عن صحة هذه التجربة أو مناسبتها. وهذا هو جوهر تصريح وزارة التربية والتعليم، فتنفيذ الاختبارات التحريرية ليس الغاية ولا يعني إلغاء التقويم المستمر في المرحلة الابتدائية، لكن ضعف قدرات المعلمين على تنفيذ اختبارات تقويمية هو الذي جعلهم يتجنبونها ويعتمدون على أساليب أقل مهارة وهذا - كما أوضحت الوزارة - أدى إلى ضعف المخرجات ذلك أن العملية التقويمية ضعيفة. فلائحة التقويم المستمر في المرحلة الابتدائية تؤكد تنفيذ عدة أساليب مختلفة في التقويم تهدف إلى قياس المعارف والمهارات التي يكتسبها ويمتلكها الطالب بناء على واقع الخبرة التعليمية، فكان المعلمون يتجنبون الاختبارات للجهد المبذول فيها ويختارون أساليب أخرى، واليوم وبعد القرار، فإن العكس سيحدث، حيث سيعتمد المعلمون على الاختبارات فقط ويتجاهلون الأساليب الأخرى وهكذا ندور في حلقة مفرغة.
وعوداً على بدء، فالمشكلة أن مهارات المعلمين في بناء التقويم لا تتناسب مع فلسفة الوزارة عن التعليم (إن وجدت)، فالمعلمون في الميدان لهم تصوراتهم الخاصّة عن العلم ودور الطالب والمعلم، وهذه التصورات لا تتفق مع ما تعتقده الوزارة، لذلك فحتى لو تم تطوير أرقى الوسائل التربوية والأدوات التعليمية وأدوات التقويم، فإن ما يفكر فيه المعلم هو ما سيصل إلى الطالب، وسوف يكيف المعلم جمع الأدوات والاختبارات، وفقاً لما يؤمن به بغض النظر عمّا تريده الوزارة أن يكون. وطالما لم تحل هذه المسائل الأساسية، ولم تعمل الوزارة جاهدة على غرس وزرع مفاهيم تعليمية نتفق عليها جميعاً وبناء منظومة صحيحة وسليمة لتحرير الفكر والعلم، فإن العودة إلى المربع الأول ستكون أفضل إنجازات الوزارة إذا تاهت في الطريق.