البنوك والمنافسة في التمويل الاستهلاكي
في هذه الفترة تشهد البنوك منافسة محمومة في تمويل الأفراد التمويل الشخصي، فقد شهدت عروضاً متدنية حتى أن البعض منها يقدم عرضاً للتمويل يصل عائده 1 في المائة، ولا يزيد عرض البنوك في هذه الفترة لتمويل الأفراد على 1.5 في المائة ـ هذا بحساب كامل المبلغ الإجمالي، أما العائد الحقيقي فهو أعلى من ذلك ـ هذه العروض التي تملأ الصحف يومياً هي نتاج لحجم السيولة الكبير الذي تتمتع بها المؤسسات المالية التي لا تجد متنفساً له إلا من خلال تمويل الأفراد الأسهل والأسرع والأكثر عائداً، ومخاطره أصبحت محدودة في ظل متابعة لتاريخ الأفراد الائتماني من خلال مؤسسة سمة. والحقيقة أن الأمر الجيد هو أن البنوك في إعلاناتها أصبحت توضح ولو بخط صغير التكلفة الفعلية للتمويل وهي تفوق إعلاناتها، ويظهر أن ذلك هو أثر لمجموعة من المبادرات التي ألزمت بها مؤسسة النقد من أجل مزيد من الشفافية والوضوح للعميل.
وجود مثل هذه العروض التي تساعد المواطن وتخفض له التكلفة أمر لا إشكال فيه إذا كان العميل في حاجة إلى مبلغ يستعين به على قضاء احتياجاته، ولكن هناك أمور من المهم الإشارة لها منها:
المصاريف الإدارية متفاوتة بين البنوك، وقد يكون مبالغاً فيها جداً، وهي في الحقيقة تزيد من تكلفة التمويل بشكل واضح، فلو افترضنا أن متوسط عروض البنوك يصل إلى 1.25 في المائة، وتكلفة المصاريف الإدارية 2500 ريال، وطلب العميل من البنك تمويلاً مقداره 100 ألف ريال، فإن هذه المصاريف الإدارية تعدل ربح عامين، بما أن كل عام يربح البنك من العميل نسبة قدرها ـ كما سبق 1.25 في المائة ـ وبما أن مدة التمويل لا تتجاوز خمس سنوات فإن هذا المبلغ سيكون مؤثراً، وإذا ما طلب العميل إعادة التمويل، فإنه سيحصل على فرصة للتمويل بمبلغ أقل وخلال فترة أقصر، وسيدفع الرسوم الإدارية كاملة.
لا شك أن البنوك بما أنها في الغالب تعرض تمويلاً تعتبره متوافقاً مع الشريعة، وهذا يتطلب إجراءات مرتبطة بتملك السلع ومن ثم بيعها، وهذا فيه تكلفة عليها، لكن تفاوت البنوك في مقدار هذه المصاريف ـ رغم تقارب شكل التمويل ـ يثير تساؤلاً: لماذا نجد بعضها أقل من بعض في تكلفة المصاريف الإدارية، ويفترض ألا تتربح من هذه المصاريف بما أنها بشكل مباشر تربح من التمويل ذاته، فلماذا هذا التفاوت فيما بينها؟ ولذلك يمكن أن تتدارس البنوك مع مؤسسة النقد هذا الأمر للوصول إلى التكلفة الفعلية للتمويل أو أنها تكتفي بالربح بالنسبة المعلنة عنها وتضمِّن ذلك المصاريف الإدارية، خصوصاً في بعض المنتجات تجد أن التكلفة مرتبطة بحجم التمويل، فمثلاً في التمويل بالأسهم نحن نعلم أن من يشتري بقيمة 200 ألف ريال يدفع رسوم بيع وشراء أعلى ممن يشتري ما قيمته 100 ألف، فكيف يدفع كلاهما رسوماً إدارية متساوية؟
من الأمور المهمة أيضاً أن العروض المركزة على التمويل الاستهلاكي غير المرتبط بعقارات أو سيارات أو حاجات ضرورية، قد يزيد من حجم السيولة السلبية التي تزيد من مستوى الأسعار والتضخم ولا تعود على الفرد بصورة إيجابية كما هو الحال في التمويل العقاري الذي يوفر للفرد السكن والاستقرار، ويكفيه تكلفة الإيجارات، ويمكنه من شراء عقار يحميه من احتمال ارتفاع الأسعار مستقبلاً، وإن كان بعض البنوك تقدم عروضاً لهذا التمويل وهذا جيد، إلا أن البعض الآخر يركز فقط على التمويل الشخصي، ومن هنا تأتي الخطورة على الفرد، خصوصاً عندما نعلم أن القروض الاستهلاكية أصبحت تزداد بصورة واضحة، وأصبح أغلب المواطنين اليوم مديناً للبنوك.
من الأمور المهمة أيضاً هو أن هذه العروض وحرص البنوك على الإقراض للأفراد يثيران تساؤلاً: ما مدى استيعاب القطاع التجاري لهذه السيولة الكبيرة لدى البنوك؟ وهل الأنظمة والتشريعات تساعد على استيعاب هذه السيولة؟ فعلى سبيل المثال سوق الصكوك الذي تم إنشاؤه قبل عدة سنوات لا يزال ضعيفاً من جهة حجم الإصدارات، وما يتم إصداره يتم تغطيته بأضعاف قيمته، كما حصل في إصدار صكوك شركة الكهرباء أخيراً، فإذا لم يكن هناك تنمية حقيقية تستوعب هذه السيولة التي تمتلئ بها البنوك، فإننا قد نستمر طويلاً في الاعتماد على النفط كمصدر للدخل في ظل ضعف نمو القطاعات الأخرى، ولذلك قد يكون مما يحفز استقطاب الاستثمارات مسألة توفير التمويل للمستثمرين بأسعار مناسبة إذا ما استثمروا داخل المملكة.
فالخلاصة، إن منافسة البنوك في تمويل الأفراد تعكس حجم السيولة الكبير لدى البنوك وثير تساؤلاً عن قدرة القطاعات الاستثمارية على استيعاب هذه السيولة، والأمر الجيد في هذه العروض أنها عرضت نسبة التكلفة الحقيقية، ولكن ما سبب اختلافها في تكلفة المصاريف الإدارية المبالغ فيها رغم تشابه الإجراءات إلى حد ما.