واشنطن والقوة البحرية المتنامية للصين
مما لا جدال فيه أن الاقتصاد الصيني الصاعد بقوة يحتاج إلى ما يحمي الممرات المائية التي تمده بمستلزماته من الطاقة عبر المحيط الهندي وبحري الصين الجنوبي والشرقي، التي تعبر من خلالها أيضا صادراته المتنوعة إلى العالم الخارجي، ولا سيما إلى دول الشرق الأوسط وأوروبا. ومن هنا لم يكن مستغربا لجوء بكين إلى الإنفاق بسخاء على أساطيلها العسكرية البحرية من أجل هذا الهدف، وإن لم تقل إنها تستهدف الهيمنة على تلك الممرات. غير أن واشنطن وحلفاءها في المنطقة يرون خلاف ذلك، ويخشون من تعاظم القوة البحرية الصينية إلى حد فرض بكين رؤيتها الخاصة فيما يتعلق بحرية الملاحة البحرية والجوية أيضا في المناطق المحاذية لها.
ولعل التحرشات التي حدثت أخيرا بين السفن الحربية الأمريكية والصينية في بحر الصين الجنوبي، معطوفة على قرارات بكين بفرض منطقة حظر جوية محددة في المنطقة ينبئ بما لا يسر. صحيح أن اشتباكات مسلحة لم تحدث إلى الآن بين الأطراف المتصارعة على النفوذ في الباسفيكي، وصحيح أن الصينيين فرضوا أمرا واقعا على الأرض قبلت به على مضض كل من واشنطن وطوكيو لكن احتمالات التصادم واردة خصوصا في ظل الوجود العسكري الكبير للبحرية الأمريكية هناك، فضلا عن التنافس المعلن بين طوكيو وبكين ودول آسيوية أخرى. ومن جانبها تعلم بكين جيدا أنها - على الأقل في الوقت الراهن - لا تملك الإمكانات والخبرات التي يتمتع بها خصومها، لذا تعتمد على الاتصالات معهم لتفادي أسوأ السيناريوهات.
وأفضل مثال على صحة ما نقول هو ما حدث في أواخر العام الماضي حينما اقتربت حاملة الصواريخ الأمريكية الموجهة "يو إس إس كاوبين" بقواتها التي تجاوزت عشرة آلاف عنصر من حاملة الطائرات الصينية "لياونينغ". في هذه الحادثة زعم الأمريكيون أنه وجب عليهم اتخاذ إجراءات طارئة لتفادي الاصطدام بالحاملة الصينية، بينما اتهم الصينيون الأمريكان بتعمد التحرش بـ "لياونينغ" وقيامهم بعمل استفزازي، مضيفين بصريح العبارة أنه "لو قامت القوات الأمريكية البحرية أو الجوية في المستقبل بالاقتراب من عتبة الباب الصيني فإن التصادم بين الطرفين سيقع لا محالة". وفي محاولة من بكين لشرح الحدث للعالم الخارجي أوضح وزير الدفاع الصيني أن سفن البحرية الأمريكية والصينية كانت على وشك الالتحام في بحر الصين الجنوبي لكن السيناريو الأسوأ تم تفاديه عبر اتصالات اللحظة الأخيرة.
في تحليل سياسي نُشر أخيرا في صحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" ربط كاتبه ما بين تعاظم القوة البحرية الصينية وخطاب الرئيس الصيني السابق "هو جينتاو" حول الحلم الصيني من جهة وبين السياسات الآسيوية للرئيس الأمريكي أوباما والمتمحورة حول التصدي للصعود الصيني بالتعاون مع حلفاء بلاده في أستراليا وسنغافورة والفلبين واليابان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى.
ومما جاء في هذا التحليل أنّ الصين، كدولة وحضارة قديمة، مستوعبة تماما لنظرية "ماهان" - نسبة إلى القبطان البحري الأمريكي "ألفريد ماهان" الذي وضع كتابا في عام 1890 حول نفوذ القوة البحرية عبر التاريخ، وقال فيه إن قوة الإمبراطوريات القديمة لم تكمن في إخضاعها لعمق الأراضي في أوراسيا وإنما في سيطرتها على مياه المحيطين الهندي والباسفيكي وضفافها التي سهلت لها الوصول إلى أعماق آسيا الوسطى - وأن الصين مستوعبة أيضا لمضمون استراتيجية التعاون من أجل نفوذ بحري في القرن الحادي والعشرين "استراتيجية وضعتها الإدارة الأمريكية في عام 2007 واتخذ منها السيد أوباما محورا لسياساته الآسيوية".
ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام أن "بيب إيسكوبار" مؤلف كتابي "العولمة: كيف يتحلل العالم إلى حروب سائلة" و"أوباما يصنع غلوبالستان" أضاف إلى التحليل السابق قائلا: إن الصين تعتمد في استراتيجياتها اليوم على نظرية "سبايكمان" - نسبة إلى "نيكولاس سبايكمان" مؤسس معهد الدراسات الدولية في جامعة يال الأمريكية في عام 1935، وصاحب المبدأ القائل إن دول جنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، والصين، واليابان، والشرق الأوسط لا تعتبر مناطق عمق وإنما مناطق حواف وضفاف لمن يريد امتلاك مفاتيح النفوذ والقوة في العالم، والقائل في عام 1942 في كتابه "استراتيجية أمريكا في عالم السياسة: الولايات المتحدة الأمريكية وتوازن القوى" إنّ الصين إنْ تعسكرت فسوف لا تمثل تهديدا لليابان فحسب وإنما أيضا للنفوذ الغربي في البحر الأبيض المتوسط وغيرها من البحار التي تتوسط العالم، "وبعبارة أخرى فإنه من المحتمل أن نتصور يوما تكون فيه البحار ليست خاضعة للقوة البحرية البريطانية أو الأمريكية أو اليابانية وإنما للقوة البحرية الصينية المدعومة بقدرات جوية".
وإذا صح ما قاله إيسكوبار فإن الأمر لن يكون غريبا على كل دارس للتاريخ الصيني. ذلك أن الصين اعتنقت شيئا من هذه النظرية في القرن الخامس عشر الميلادي حينما برزت كقوة بحرية بفضل جهود أدميرالها الموهوب "زينغ" الذي قاد الأساطيل البحرية الضخمة لسلالة "مينغ" الإمبراطورية إلى السواحل والشواطئ البعيدة عبر المحيطين الهندي والباسفيكي.
والحقيقة التي لا مناص من الإشارة إليها في هذا السياق أن الصين لم تكن لتركب موجة الإنفاق العسكري الضخم على قواتها البحرية - وأيضا الجوية -، بل لم تكن لتتخذ مواقف متصادمة مع الموقف الأمريكي في مجلس الأمن الدولي، لولا سياسات أوباما التي أفصح عنها منذ اليوم الأول لوصوله إلى البيت الأبيض والقاضية بتحويل البوصلة الأمريكية من الشرق الأوسط إلى الشرق الآسيوي أي إلى مجال النفوذ الحيوي للصين، معطوفة على قيام الجوقة الإعلامية العاملة في إدارته باستهداف الصين وانتقادها في كل شاردة وواردة للحط من شأنها على نحو ما حدث مرارا فيما يتعلق بملفها حول حقوق الإنسان، أو بخلها في مد يد العون لجاراتها الآسيويات أثناء الكوارث الطبيعية، أو طريقة إدارتها لجزيرة هونغ كونغ.
وتخطئ واشنطن كثيرا إنْ اعتقدت أنها بمثل هذه السياسات ستـُسقط الصين أو تجحمها أو تفتتها كما فعلت مع الاتحاد السوفيتي السابق؛ ذلك أن الوضعين مختلفان تماما، فضلا عن حقيقة أن شرارة سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت من دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه، بينما لا توجد للصين كتلة شرقية تهيمن على قدراتها وتكبل أبناءها، وإنْ كانت هناك جماعات صينية داخلية ترنو إلى الديمقراطية والحريات وتخلق المتاعب من وقت إلى آخر.