ميثاق العائلة .. منطلق التغيير الاجتماعي
على الرغم من التغيرات الكبيرة والسريعة والهائلة التي يشهدها المجتمع والتحولات الاجتماعية والاقتصادية وتبدل الكثير من العادات والتقاليد، إلا أن العائلة ما زالت تمثل مرتكزا أساسيا في توجيه الأفراد والمصدر الأول لتربيتهم وتعليمهم السلوكيات الاجتماعية وتثقيفهم أخلاقيا بما ما يصح وما لا يصح. وتنبع أهمية العائلة من أنها المكون الأساس في البناء الاجتماعي، فالأفراد هم نتاجها إن خيرا فخير وإن غير ذلك يكون مردوده السلبي على المجتمع بأسره. وفي الحديث "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه"، وهذا يعني أن التربية التي يتلقاها الفرد من أبويه هي التي تغرس فيه القيم والأفكار التي يرى من خلالها العالم ويفسر ما يدور من حوله من أحداث ويتصرف حسب إملاءاتها. أهمية العائلة في بناء شخصية الفرد وتعليمه الثقافة المجتمعية لا يعني أن جميع العائلات تدرك تلك الأهمية. فقد أدارت كثير من العائلات ظهرها لتربية الأبناء بطريقة محافظة وتعزيز ذات القيم الأصيلة التي نشأت عليها الأجيال السابقة في الأبناء. ذلك أن الكثيرين تلبسهم اعتقاد أن التربية المحافظة لا تتوافق مع معطيات العصر ونهج الحرية الشخصية وحق التعبير والانعتاق من القيود الاجتماعية، وأن القيم الاجتماعية مقيدة لتلك الحريات وتمنع الأفراد الإبداع وخوض تجارب جديدة. وهذا أمر في مجمله غير صحيح لأن منظومة القيم الاجتماعية هي التي تحفظ توازن المجتمع ولحمته وتناغمه، خاصة في المجتمعات التقليدية. هذه ليست دعوة للتقوقع وعدم التفاعل مع ما يحدث من تغيرات في العالم، ولكن التطوير التدريجي الواعي للمقاصد من هذا التحول الاجتماعي داخل إطار قيمي يضمن الاستقرار ويحفظ هوية المجتمع ويعزز الانتماء والضبط الاجتماعي ويدفع نحو إنتاجية وقوة المجتمع. وهنا تبرز أهمية العائلة في إعادة تثقيف المجتمع من خلال تنشئة وتربية الأبناء على الثوابت الاجتماعية وأهمها المبادئ الإسلامية والقيم العربية الأصيلة. وإذا كان لمجتمعات الغرب والشرق ما يسمى الإتكيت وهو تصرف الفرد في وضع اجتماعي معين، فإن الإتكيت في المجتمع الإسلامي هو سنة الرسول ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ الذي كان خلقه القرآن. ويبقى التوجيه النبوي في أن كلكم راع ومسؤول عن رعيته، منطلق تحديد مسؤولية الأبوين في تربية الأبناء وأنها الدائرة الأولى المؤثرة المرتبطة بالدوائر الاجتماعية الأكبر في سلسلة اجتماعية تقود نحو التنمية الشاملة وتطوير المجتمع.
الأصل في التربية هو تطوير وتعديل فكر وميول وسلوك الأبناء، ما يعني إحداث تغيير إيجابي في الأبناء. والتحدي هو أن هذه التغيرات ربما لا يتفق بعضها مع رغبات الأبناء أو أنهم لا يستطيعون فهمها وإدراك أهميتها. هنا تبرز أهمية الأسلوب التربوي في إحداث التغيير بما يحقق المقصد ويخلق قناعة من داخل ذات الأبناء تدفعهم نحو السلوك "الصحيح" أو على أقل تقدير المطلوب. والناس في التربية على ثلاثة أنواع: نوع لا يكترث بضبط وإلزام وتوجيه الأبناء وتعليمهم الآداب العامة وأسلوب التصرف مع النفس والآخرين والأشياء. فترى الأبناء لا يحسنون التصرف، غير مبالين واتكاليين كسولين أو منفلتين مشاغبين يؤذون أنفسهم والآخرين. والنوع الثاني على العكس من ذلك لا يمنح الأبناء مساحة من الحرية لخوض التجارب والتعلم وتطوير مهاراتهم الاجتماعية فيكبتهم ويسلبهم الإرادة وصنع القرار ولا يثق بهم. فينشأ الأبناء مكسورين نفسيا منطوين على أنفسهم يخافون مواجهة الآخرين ويرتبكون عند كل حدث ولا يستطيعون أن يقرروا لأنفسهم. أما النوع الثالث فنهج تربوي يعتمد على المحبة والرعاية والعناية والثقة والانضباط المعتمد على التغذية العكسية من أجل تطوير السلوك وخلق شخصية تحقق ذاتها وتندفع نحو عمل الأشياء بطريقة أفضل لكن في إطار من القيم وعلاقة الاحترام المتبادل مع الآخرين.
التحدي الكبير الذي تواجهه العائلات، أنها لم تعد هي الوحيدة التي تربي أبناءها، فهناك الأصدقاء والزملاء والجيران والمدرسة. والمشكلة هنا أن الأصدقاء والزملاء والجيران لم يعودوا كما كانوا في السابق تجمعهم ثقافة واحدة. لقد كانت المجتمعات المحلية صغيرة ومتلاحمة ومترابطة ومتجانسة، إلا أن كل ذلك تبدل وأصبح هناك تباين ثقافي داخل المجتمع سببه الطفرة الاقتصادية التي خلقت تحولا كبيرا في قيم الناس وسلوكياتهم. كما أن تقنية المعلومات والاتصالات والإعلام اخترقت العائلات وأثرت في فكر وميول وسلوك الأبناء. فالأفلام الإباحية والإجرامية والإرهابية جميعها ساهمت في هدم الثقافة المحافظة وبنت ثقافة جديدة بقيم غربية غريبة، أخذ الأبناء منها الجوانب السلبية لأنها تلبي أهواءهم وتستثير غرائزهم وتركوا جوانبها الإيجابية من عمل وجد واجتهاد والتزام بالوقت واحترام حرية الآخرين. لأنهم إنما رأوا الجانب السلبي من خلال تلك الأفلام الأجنبية ولم يعايشوا ويفهموا سياق حياة تلك المجتمعات بشموليتها، فظنوا أن التقدم والتطور والرقي والحداثة في أن يكون الإنسان مستهترا يثور ضد التقاليد والأعراف من دون وعي بالمقصد ولا قيم يراد تحقيقها أو تغيير للأفضل. هكذا يقلد الأبناء تصرفات الآخرين لبسا وأكلا وسلوكا تقليدا أعمى. ويبدو أن الجانب السيئ من الثقافة الغربية قد تغلغل في المجتمع عززه الترف المعيشي المفاجئ الذي قلب الموازين وأصبح الكل يدور في فلك المظاهر الخادعة والمباهاة المزيفة والمنافسة العقيمة فيما يلفت الأنظار دون قيد قيمي يمنع الناس التمادي في الإسراف على أنفسهم، أو معايير أخلاقية تمنحهم القدرة على الاختيار والتفريق بين الغث والسمين ومعرفة ما هو مقبول وغير مقبول.
وهكذا أصبح هناك انفلات أخلاقي في المجتمع، وموجة عارمة من التغيرات والمستجدات تجتاحه، ولم يكن الناس قد استعدوا له وأخذوا على حين غرة. وربما كان التطرف التربوي من أهم أسباب ذلك فبين الإفراط والتفريط وقع المجتمع في أزمة هوية نتج عنه تشويش فكري للأبناء وسلوكيات غير منضبطة. وهنا يبرز تساؤل في غاية الأهمية: ماذا علينا فعله كمجتمع لإعادة تثقيف الأفراد وتطوير سلوكياتهم؟ والجواب، بإعادة دور العائلة كمصدر أساس في التربية. ولتحقيق ذلك لابد أن تضع كل عائلة ميثاقا أخلاقيا تدفع من خلاله أبناءها للالتزام بالسلوك الحميد والسعي نحو التميز والحفاظ على سمعة العائلة. ويتضمن الميثاق قائمة من المعايير الأخلاقية ومؤشرات قياس تطبيقها لتكون التوقعات من الأبناء واضحة. ويمكن أن تصنف القائمة في الميثاق بأخلاق عامة يلتزم بها جميع أفراد العائلة ومعاير للتميز تتضمن التطوير الذاتي في الثقافة الإسلامية والاطلاع والاستكشاف وتعلم مهارات جديدة، وفي جانب العلاقة مع الغير يكون المعيار التميز في العمل والإنتاجية والدراسة والعمل التطوعي. ميثاق العائلة هو منطلق التغيير الاجتماعي، فلنسع جميعا لتطبيقه.